لو أريد دراسة أي شخصية لزاما علينا معرفة كل الجوانب المحيطة بها والظروف التي نشأت فيها والبيئة الاجتماعية والأسرية والفكرية وانحدارها الطبقي والمؤثرات النفسية التي ساهمت في بناء هذه الشخصية ليتسنى لنا معرفتها والإحاطة بها وإنصافها سلبا وإيجابا حيث نستطيع أن نكون فكرة واضحة لـتأريخها وتأثيرها في مجتمعها تجنبا من بخس حقها وخصوصا إذا كانت شخصية لها مكانتها وتأثيرها في التأريخ ومن هذه الشخصيات المطروحة الآن بين طيات كتب الكتاب والمؤرخين للسير التاريخية هي الشخصية التي أحاطها الغموض والتلاعب في شخصيتها والافتراء عليها وهو الملك البابلي الآكدي – نبوخذنصر- الذي ترك بصمة واضحة في تأريخ العراق والعالم الحاضر والماضي وما زالت شواهده حاضرة لحد الآن .لهذا نبدأ بهذه الشخصية منذ نشأتها وارتباطها بأرض بلاد الرافدين ولو بدأنا أولا أن ملوك بابل وآشور هي من أسرة واحدة انحدرت من بلاد وحضارة اليمن العربي وتابعت نزوحها إلى شبه الجزيرة العربية وشواطئ الخليج العربي وصولا إلى جنوب العراق وحتى شمالا منه من قوم الملك العربي تُبع وأبنه أسعد بن تُبع وأولاده حيث ترعرعت هذه الأسرة على التوحيد والإيمان بوحدانية الله تعالى وإيمانهم بالديانة اليهودية الموحدة لله تعالى بعدما أعتنقها الملك تُبع وجاء بها من الشام ومن ذُريته ( شرحبيل ) أو ما يسمى ( شوبرليت ) وسميه بعدها ب( آشوربانيبال ) كما ذكره الدكتور المؤرخ ( طه باقر ) رحمه الله .حيث كان يتبع الديانة التوحيدية في مملكة الكلدانيين وهو الذي كسا الكعبة المشرفة بالذهب لأول مرة في تأريخها مع أبنه حسان الأول كما أورده المؤرخ ( أغاثيوسيوس ) اليوناني وقد ذكر المؤرخون على أن الكلدانيين موطنهم الأصلي هو شواطئ الخليج العربي بين عُمان وجنوب العراق سابقا كما أورده الأستاذ – أحمد سوسة – أو شبه الجزيرة العربية كما ذهب إليه الباحث ( فيليب دوغورتي ) ودخولهم العراق خلال الألف الأولى ق.م ويميل الباحثون أنهم كانوا يدينون بالنسخة الإغريقية للإنجيل .
وكانوا على مقربة من شبه الجزيرة العربية التي كانت ديانتهم هي عبادة الأصنام والوثنية التي جاء بها عمرو بن لحي لشبه الجزيرة العربية وهذه الأصنام كانت بالنسبة لهم ما هي إلا واسطة للوصول إلى الله تعالى مع معرفتهم به سبحانه تعالى كما ورد في القرآن الكريم ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فأنى يؤفكون ) وكذلك ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) هذا أذا سلمنا جدلا أن البابليين قد تأثروا بهم بحسب مجاورتهم الجغرافية بين بلاد النهرين والجزيرة العربية واستيطانهم بجوار الصابئة المندنائية التي كانت تؤمن بأن الله تعالى موجود في الضمير والوجدان والعقل وروح الإنسان وفي كل شيء حي وغير حي وفي كل مكان وهذا هو أقرب معنى للتوحيد والاستسلام لله تعالى وحده كما ذكره ( أبي الحسن علي المسعودي ) في مروج الذهب . وقد ذكرهم الباحث ( جواد علي ) والمؤرخ ( سامي سعيد الأحمد ) حيث أعتبرهم عربا نزحوا من أرض اليمن العربية وأيدها بأدلة وكتابات أثرية ورُقم سبئية وعربية جنوبية عُثر عليها في مباني الملك البابلي ( نبوخذنصر) .
وقد ذُكر أن قبيلة نبوخذنصر الآرامية خرجت من شبه الجزيرة العربية سنة 1500 ق.م واستقرت في سوريا أولا سنة 700 ق.م مؤسسة الدولة الآشورية ثم نزحوا إلى الجنوب من العراق ثم اتجهوا شمالا منه إلى بابل كما ذكره الأب ( أنستاس الكرملي ) وبذلك يعتبرهم عُربا . ويُذكر أن الديانة البابلية هي عبادة كل الظواهر الطبيعية للكون والأجرام السماوية ويعتقدون بأن هناك قوة خفية تسيرها لا تُرى بالعين لذلك يؤمنون بالقوة الخفية لهذه الظواهر والأجرام وليست الظواهر بعينها كما يُشاع عنهم وكانوا يعتقدون أنهم خُلقوا من طينة الأرض والاعتقاد بالحياة الآخرة والحياة بعد الموت أي فكرة البعث بعد الموت وكذلك انفصال الروح عن الجسد بعد الموت .
أما ما ذُكر عن الملك البابلي من جانبه الأول وهي الحقائق التاريخية وهي كما أسلفناها والجانب الثاني من وجهة أعدائه اليهود بعد سبيهم مرتين وهو ما يسمى بالسبي البابلي وحقدهم عليه وافترائهم وكذبهم عليه في كتبهم ومعتقداتهم الدينية وما زالوا يثقفون أبنائهم وأجيالهم القادمة على حقدهم على العراق خاصة كما ذكره سفر التكوين والتوراة المحرفة لديهم نتيجة للعقاب الذي أنزله الله عليهم لقتلهم الأنبياء والرسل على يد هذا الملك العادل . فمن هو هذا الملك البابلي وشخصيته
نبوخذنصر
——— أسمه بختنصر أو بختر شاه باللفظة ال( آكدية ) أسقط مملكة أورشليم القدس عام 597ق.م أولا والثانية عام 587 ق.م ويدل معناه بالآكدية نبوكودورو أصور أي (نابو حامي الحدود ) ومعنى بختنصر ( سعيد الحظ ) أمتاز بالتسامح الديني وحرية الفكر والحرية الدينية كان يحترم آلهة الغير كان فاتحا وليس غازيا كان يعتمد على مستشاريه وخصوصا النبي دانيال بعدما أتى به من القدس وجعله مستشارا له في الأمور الدينية وله مقولة مشهورة ( الكبرياء الزائدة مدمرة للنفس ) كان عسكريا بارعا أعتبره كثيرا من المؤرخين أنه ملك عادل يعبد الله تعالى حكم البلاد 43 عاما ومما يزكيه هو قول الله تعالى في كتابه القرآن الحكيم كما أورده في الآية ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار….) حين وصفه بعباد لنا وهذا يدل على أنه عبد ممن يوحد الله تعالى بعدما سلطه على اليهود انتقاما منهم لقتلهم الأنبياء والرسل والتغطرس على غيرهم .
أما من الجهة الثانية فقد كتب حوله ممن عاده وهم اليهود وشوهوا صورته في كتبهم الدينية ومعتقداتهم وما انفكوا يمارسون الكذب والتدليس في حقيقة شخصيته انتقاما منه لسبيهم مرتين وينصبون العداء له وللعراق جميعا ولبابل في أعلامهم وثقافتهم حيث اتهموه بالجنون لسبع سنين قبل وفاته وكما جاء في سفر التكوين أنه أسلم لله على يد نبي الله دانيال عليه السلام لتفسير حلم للملك نبوخذنصر .وخلاصة القول ومما تقدم من طروحات وتناول للمعلومات حول هذه الشخصية التاريخية نصل إلى حقيقة مفادها أن هذه الشخصية صورها لنا كمسلمين هو القرآن الكريم المصدر الموثوق للعالم بأنه عبد من عباد الله الصالحين الموحدين لربوبية الله تعالى الخالصة بعدما قرن وصفه بعبد إلى أسمه تعالى وقال عباد لنا والمنسوب إليه هو الله تعالى وهذا التقصي والبحث عن هذه الشخصية الآكدية وامتدادها العائلي الديني إلا وجهة نظر تزيل كثيرا من غبار الافتراء والانتقاص من قبل أعدائه وباب الإنصاف له من خلال الغوص في أعماق الحقائق التاريخية التي تنصف كثيرا من الشخصيات المظلومة ) …..