19 ديسمبر، 2024 1:17 ص

في فبراير (شباط) 1989 ألقى فرانسيس فوكوياما المفكر الأمريكي من أصل ياباني، كلمة في جامعة شيكاغو بخصوص “العلاقات الدولية” تم نشرها في صيف 1989 في مجلة The National Interest، وكانت بعنوان “نهاية التاريخ” كما نشرت في مجلة Times Magazine التي تصدر في نيويورك.
كان يومها في السادسة والثلاثين من عمره، ويعمل في مؤسسة راند Rand المقرّبة من CIA بصفة “خبير في السياسة الخارجية السوفيتية”، لكن تلك المقالة سرت مثل النار في الهشيم، فنوقشت في بريطانيا وفرنسا، وترجمت إلى لغات عديدة، وذلك لثلاثة أسباب مهمة:
أولها- إعلان ميخائيل غورباتشوف الزعيم السوفييتي قبل نحو شهرين من أن الاتحاد السوفييتي سيكفّ عن التدخل في شؤون أوروبا الشرقية، وذلك في خطابه في الأمم المتحدة (7 ديسمبر/ كانون الأول 1988):
وثانيها- إن العام ذاته 1989 صادف انهيار الكتلة الاشتراكية بعد الإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية، حيث شهد العالم الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا وأعقبها هدم جدار برلين في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) في العام ذاته، وقبلها تغييرات للأنظمة في بولونيا وهنغاريا، ثم صوّت الاتحاد السوفييتي على حلّ نفسه في 26 ديسمبر/كانون الأول /1991.
وثالثها- إن فوكوياما أخذ يتدرّج في المناصب، حيث انتقل إلى نائب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، وسرعان ما تحوّلت مقالته إلى كتاب مقابل 600 ألف دولار، وتم نشره بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” في 1992 ونشرته دار Free Press، ولذلك اكتسبت مقالته وفيما بعد كتابه أهمية كبيرة، باعتباره قريباً من أصحاب القرار ومؤثراً في اتخاذ القرار.
يقرّر فوكوياما في كتاب “مستقبلنا ما بعد الإنسانية أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدّم سريع ومذهل
واليوم وبعد مضي ثلاثة عقود من الزمان على ترويج أطروحته الشهيرة تلك، وبعد بلوغه السادسة والستين من عمره، فهل كانت الضجة التي رافقت مقالته وكتابه تستحق كل ذلك، أم إن ذلك جزء من الدعاية والصراع الأيديولوجي ضد الشيوعية حينها وما بعد الحرب الباردة، خصوصاً التحضير لاختراع عدو جديد هو “الإسلام” وشيطنة الآخر، لدرجة أن عقد التسعينيات كلّه، شهد مثل تلك الحملة الديماغوجية، والتي تُوّجت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001، بغزو أفغانستان في العام ذاته واحتلال العراق بعده في العام 2003؟
ولنا أن نتساءل أيضاً بعد أن خفت بريق نظرية فوكوياما عقب عقد ونيّف من الزمان، حيث كانت تتصدر فيه الواجهات: هل كانت تستحق كل ذلك العناء والانشغال العالمي بها؟ وبعد ذلك ما الذي تبقى اليوم من أطروحته التي بشرنا بها بنهاية التاريخ؟ ثم هل الرهان على اليقين الليبرالي “المنتصر” كفيل باجتراح المعجزات؟ أم ثمة حقائق أخرى أخذت تنتصب أمامنا، وهي بحاجة إلى إعادة النظر في الكثير من “المسلّمات” التي افترضها بشأن “حتمية تاريخية” لنمط آحادي لحضارة “سائدة” هي الغربية – الليبرالية (المسيحية – اليهودية) على حساب الحضارات الأخرى، بما فيها الحضارات التاريخية مثل الحضارة الصينية والهندية واليونانية والعربية – الإسلامية وغيرها؟
ولعلّ مراجعة الأطروحات التي تقول بظفر الليبرالية التي بدأها فرانسيس فوكوياما وإن تزعزع تشبثه بها بعد أحداث 11 سبتمبر، تكشف لنا هزال تلك الفرضيات الحتمية والافتراضيات التنظيرية، التي حاول تقسيم العالم بموجبها إلى قسمين: “عالم التاريخ” و”عالم ما بعد التاريخ”، وإذا ما أريد الخروج من عالم التاريخ ودخول عالم الما بعد تاريخي، فلا بدّ من نزع الهويّة الخاصة واللحاق بعالم ما بعد التاريخ، وهذا الأخير هو عالم الدول الصناعية المتقدمة، ويواجه العالم الجديد بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، مشكلات أساسية، وهي النفط والإرهاب الدولي واللاجئون.
وإذا كان فحص نظرية فوكوياما خارجياً يثبت خطلها، فإن فحصها داخلياً قاد إلى ممثل هذا الاستنتاج، حيث اضطرّ هو نفسه إلى تعديل أطروحته أو نقضها بسبب حالة الاستعصاء، بعد أن أثبت “التاريخ” أنه ماكر وخداع على حد تعبير هيغل، فقد أكدت الوقائع إخفاق، بل عدم قدرة تلك الفرضيات على تجاوز الواقع المعقّد، وهكذا أخذ فوكوياما يرجّح الجانب القانوني والمؤسساتي في بناء الدول على حساب حتميته التاريخية، ولذلك اعتبر أن جهود الديمقراطية الليبرالية في بناء المؤسسات كانت متواضعة جداً، وأنه إذا كان هناك شيء واحد تغيّر في تفكيره بشأن كل هذا، فهو بالضبط هذا السؤال حول صعوبة خلق المؤسسات.
وفي كتابه الانتقالي “مستقبلنا ما بعد الإنسانية: تبعات ثورة التكنولوجيا الحيوية” يقرّر أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدّم سريع ومذهل، حيث أشار ردًّا على صحيفة الهيرالدتربيون: إن أيسر طريقة لفهم أطروحته الجديدة هي إدراك الجانب السياسي للتكنولوجيا. وإذا كانت التكنولوجيا والمعلومات قد أضفت قدراً كبيراً من التأثير على الديمقراطية السياسية والليبرالية، فإن التكنولوجيا الحيوية من الممكن أن توفّر مجموعة أدوات للسيطرة والهيمنة في السلوك الاجتماعي.
وذهب فوكوياما إلى اعتبار الأدوية الجينية التي يتم إنتاجها لحقن إثر التفاعلات المناعية لكل مريض على حدة تحقق تقدماً واعداً في المستقبل، وقال إن العالم سيشهد خلال عشر سنوات قادمة ظهور العديد من الأدوية المختلفة التي من خلالها يتم تحسين الذاكرة وزيادة الذكاء.
وهكذا، يعود فوكوياما إلى تأكيد حقيقة قيام الديمقراطية التي تطورت ببطء شديد وتراكم طويل الأمد، منذ أن كانت إرهاصاً جنينياً، حتى أصبحت قويّة العود في بعض البلدان، وإن يجري تهديدها باستمرار، وما الموجة الشعبوية العارمة التي صاحبت صعود دونالد ترامب إلى قمة السلطة في الولايات المتحدة إلا تعبير عن ذلك والأمر يشمل أوروبا التي اكتسحت فيها الشعبوية بلداناً عديدة مثل فرنسا ممثلة “بالجبهة الوطنية” برئاسة مارلين لوبان وإيطاليا، حيث ظهرت حركة الـ 5 نجوم، وفي ألمانيا كان صعود “البديل الديمقراطي” ملفتاً، مثلماً فاز الشعبويون في هولندا والدانيمارك والنمسا والمجر والتشيك وبولونيا وغيرها.
إن صعود الموجة الإسلاموية التكفيرية ارتبط إلى حدود غير قليلة بموجة شعبوية دينية اتخذت من الإسلاملوجيا ضدية في مواجهة الإسلامفوبيا
وإذا كان ذلك ما عانته خارطة الديمقراطية في الغرب من تحديات وعرة وتضاريس معقّدة. ففي منطقتنا العربية، كان الأمر أشدّ سوءًا في ظلّ انقسامات مجتمعية عديدة ما دون الدولة وما قبلها، بل إن بعضها يهدد وجود الدولة واستمرارها، ويمكن القول إن “التجارب” الديمقراطية ما تزال محدودة وهلامية وهشّة، وليست أكثر من توجّهات في العديد من البلدان، التي واجهتها من معوّقات أساسية وعقبات عديدة هي: الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية والمذهبية والتوتّرات الإثنية والقومية والعنف المجتمعي والإرهاب الدولي والحروب الإقليمية وشحّ الثقافة الديمقراطية، خصوصاً في ظلّ التفاوت الاجتماعي وعدم عدالة توزيع الثروة، إضافة إلى تفشّي الأمية وانتشار الجهل وعقبات أخرى، مثل العشائرية والجهوية وغيرها.
جدير بالذكر أن صعود الموجة الإسلاموية التكفيرية ارتبط إلى حدود غير قليلة بموجة شعبوية دينية اتخذت من الإسلاملوجيا (أي استخدام التعاليم الإسلامية ضد الإسلام) ضدية في مواجهة الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام في الغرب) وذلك في إطار نزوع متطرف يستند إلى تعصّب، وسرعان ما يتحوّل التطرّف إلى سلوك، فيؤدي إلى العنف وهذا الأخير يمكن أن يصبح إرهاباً إذا ضرب عشوائياً، ولذلك لاحظنا الانتشار السريع والواسع للتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة وأخواتهم، تلك التي وجدت أن فيروس الإرهاب سريع الانتشار، وبيضه يمكن أن يفقس إذا ما كانت هناك بيئة صالحة لذلك.
ولا أدري أين نضع مقولات فوكوياما اليوم بعد العقود الثلاثة الماضية، ولاسيّما بعد التحديات العديدة التي واجهتها الديمقراطية، في عرينها الأصلي، إضافة إلى الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا؟ وأين يمكن أن نضع دولة مثل الصين، حيث ما يزال يحكمها حزب واحد، مهّد رئيسه شي جين بينغ للبقاء في منصبه إلى أجل غير مسمى، وكذلك دولة كبرى مثل روسيا التي استبدل فيها الرئيس فلاديمير بوتين مناصبه، ليمدّد إدارته لسلطة بلاده ليبقى هو على رأسها؟
وهكذا نرى أن الشعبوية التي شهدتها انتخابات الاتحاد الأوروبي مؤخراً ليست ردّة فعل عاطفية وفورة انتخابية إزاء واقع مأزوم، وإن كانت تستغل ذلك، ولكنّها تهديد حقيقي للديمقراطية الليبرالية، خصوصاً بجنوحها لتقديم تفسيرات لمفهوم الشعب في محاولة لنفي التنوّع والتعدّدية الثقافية، ومحاولة فرض نوع من التجانس عليه، الأمر الذي يعني فرض شكلٍ من أشكال الوحدة الإجبارية التي تقترب من الإكراه، فهل تحققت “نبوءة” فوكوياما أم أنها لم تكن أكثر هرطقة أيديولوجية جانبت الواقع واستنفذت أغراضها بعد محاولة فرض الهيمنة وإملاء الإرادة والتحكم بمسار العلاقات الدولية؟
نشرت في موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، السبت 14/9/2019