23 ديسمبر، 2024 2:56 ص

نبوءة عبد الرحمن منيف المخيفة عن الإفساد الثقافي النفطي (الخليجي)

نبوءة عبد الرحمن منيف المخيفة عن الإفساد الثقافي النفطي (الخليجي)

انها رؤية مخيفة هذه التي يطرحها الراحل الكبير (( عبد الرحمن منيف )) في كتابه : (( الثقافة والسياسة )) عن الثروة الملعونة (( النفط )) كما يسميّها ، وهي تسمية موفقة جداً ، فبدلا من أن تكون هذه الثروة نعمة هائلة على كل الشعوب العربية ، إذا بها تصبح نقمة على شعوبها ، ليس شعوبها التي تملكها فحسب بل الشعوب الأخرى التي لا تملكها والفقيرة أصلا وأبدا. ولا أعلم لماذا يحاول بعض أنصار المناهج الحداثوية فصل الأدب عن دوره الاجتماعي ، وما الذي يضيرهم أن يكون للأدب دور اجتماعي في النوعية والتحشيد والنهوض في أمة محطمة مستغلة ومُستعمرة – بصورة مباشرة وغير مباشرة – من بين أدواره الجمالية والنفسية !!
والأمر الرائع في سلوك عبد الرحمن منيف الإبداعي هو أنه كان مخلصا لدوره الاجتماعي الثوري عمليا وروائيا . في الرواية حاول منيف دقّ جرس الإنذار – من خلال رواياته الفذة الكثيرة – حول مهانة الإنسان العربي وإذلاله وتحطيمه بفعل سلطة القمع المسنودة من قبل قوة النفط. يقول (( منيف )) جوابا على سؤال وجّهه له مُحرّر جريدة (( الحقيقة )) حول رواية (( مدن الملح )) التي تناولت المتغيرات الكبيرة والعاصفة التي أحدثتها الثروة النفطية الملعونة:
(( مدن الملح محاولة للاقتراب من الأشياء المُحرّمة ، محاولة للاقتراب من البؤر الساخنة والخطرة … ولأن النفط تجاوز بتأثيره البلدان النفطية الى سائر المنطقة العربية ، فان النتائج التي ترتبت على ذلك أرغمت الجميع على الطاعة والامتثال ، وقد جرى هذا بوسائل شتى وعلى مدى طويل تماما كما تفعل عوامل التعرية في الطبيعة ، خاصة وأن البلدان غير النفطية والتي كانت مثالا وقدوة خلال مراحل تاريخية متعاقبة ، تنازلت عن دورها أو خضعت للدور الذي أنيط بها ( يقصد مصر وسوريا ولبنان مثلا ) … فالسياسة التي اتبعتها دول النفط في المنطقة العربية كلها جعلت الكثيرين يسقطون أو يتنازلون ، ولقد طال هذا الأمر عددا كبيرا من المثقفين ، حيث أصبحت صحافة النفط (( المنابر )) التي يطلّ من عليها ( قادة )) الفكر والشعر وأصبح هؤلاء هم الذين يمنحون البراءات للآخرين ، وهم الذين يمهرون صكوك الغفران )) .
صار المثقفون العرب الذين يكتبون في الصحف والمجلات الخليجية أو يحضرون المؤتمرات الثقافية فيها ، يعرفون ما هي الموضوعات التي يمكنهم أن يطرقوها/ وما هي الموضوعات المحرّمة التي عيلهم أن لا يقربوا دوائرها . وشيئا فشيئا تتم تصفية القيم الفكرية والحياتية التي تربت عليها أجيال المثقفين العربية المقاومة لعقود طويلة . وليصبح هؤلاء الكتبة النفطيون هم النماذج الثقافية التي تقتدي بها الأجيال الشابة ليعم الخراب والتردّي في القيم المركزية ويشيع إفساد الذوق الجمالي ليتحوّل إلى ذوق استهلاكي أعرابي مشوّه.
ثم يلخّص منيف الهدف الرئيسي لخماسية (( مدن الملح )) في الإشارة الى طوفان هذا الإفساد الكاسح :
(( كمّ كبير من هذه النماذج التي خلقها النفط ، ثم صنّعها ، وبدأ بتصديرها الى جميع الآفاق . والآن أينما التفتنا نشمّ رائحة النفط أو نرى آثاره ونتائجه)) .
لقد امتدّ تأثير النفط الى كافة جوانب الحياة العربية وقام بإفسادها . إنّ الطريقة التي تمّ التعامل بها مع هذه المادة ، النفط ، حوّلها من مادة محايدة ، أو مادة للتقدم والرفاه ، الى أداة للاضطهاد والتبعية والقمع. و ” لعنة النفط ” هي ما عالجه منيف في روايتيه (( سباق المسافات الطويلة )) و (( مدن الملح )) باجزائها الخمسة .
أما اللعنة الثانية المرافقة والتي تنتج عن اللعنة الأولى وتنافسها فهي لعنة القمع . (( عصرنا العربي الراهن هو عصر القمع بامتياز )) (( النفط والقمع عنوانان لعصرنا العربي الراهن . ورغم ما بينهما من ترابط إلا أن كل واحد منهما يحاول منافسة الآخر على الموقع الأول )) . يقول منيف إنّ هذين الموضوعين ، القمع والنفط ، يشكلان هاجسا مستمرا بالنسبة له ، ليس باعتباره من أبناء المنطقة النفطية فقط ، وإنما لأنّ نتائجها من الاتساع والخطورة بحيث لا تترك إنسانا محايدا أو بعيدا . لقد اتسع القمع فخرّب البنية العامة للمجتمع وخرّب القيم السائدة وفتّت العلاقات التي كانت تقوم على التضامن .
وقد عالج منيف لعنة القمع في ثلاث روايات ، الأولى : (( الأشجار واغتيال مرزوق )) حيث يوصل القمع يأشكاله المختلفة الإنسان المسحوق الى حد الجنون . هنا يُحرم الإنسان من أية حقوق ويتحوّل الى عبد. ولأنّ السجن هو أعظم وأبشع تجليات لعنة القمع فقد عالجه منيف مرّتين ، الأولى في روايته الشهيرة (( شرق المتوسط )) والتي كشفت بشاعة السجن السياسي الذي يدمّر الأنسان ويلاحقه بآثاره التدميرية حتى بعد أن يغادره . (وبالمناسبة فان السجناء الفلسطينين الأبطال في سجون الاحتلال الصهيوني يتبادلون رواية (( شرق المتوسط )) ليستمدوا منها القوة على الصمود والاستمرار) .
وقد عاد منيف الى معالجة موضوع السجن ثانية في روايته : (( الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى )) . ويبرّر ذلك بالقول :
(( كتبتُ رواية أخرى عن السجن لاعتقادي أن حجم القمع الذي نعاني منه حاليا لا يُقاس بما كان سابقا .. لقد زاد واتسع الى حد أصبح كل انسان سجينا أو مرشحا للسجن )) .
إن عبد الرحمن منيف – بفعله الروائي والسلوكي المُقاوم – يدقّ ناقوس الخطر في الحياة العربية لحقيقة مفادها أن هناك:
(( علاقة قوية بين النفط والقمع وأنّ أحدهما يساند الأخر ويكمله ، هذا ما دعاني لأن الثفت الى النفط والى القمع باعتبارهما وجهين لعملة واحدة ، وكان هذا أن نلتفت ، وفي الوقت المناسب ، الى الأثار المترتبة على استمرار هذه الصيغة ومحاولة عمل شيء قبل فوات الأوان ، والاّ تحولنا جميعا الى ضحايا ، وقد لا ينجو أحد ، حتى الحكّام )) .
ويهمني في الختام أن أنقل نصّاً آخر للراحل الكبير المبدع المقاوم عبد الرحمن منيف يكشف فيه حجم الآثار الخطيرة الرهيبة حتى على شعوب النفط الخليجية نفسها حيث وصل تدمير سيكولوجيات وسلوكيات الأجيال العربية الشابة الخليجية مستوى خطيرا. يقول منيف :
(إن الوفرة المالية المتاحة لعدد كبير نسبيا، والتي حصلت دون مشقة، جعلت الكثيرين ينظرون إلى المال بخفّة ودون مسؤولية، ولجأوا إلى تبديده بإسراف مبالغ فيه . فإذا كان عمر السيارة مثلا ، ووسطياً ، خمس سنوات ﻓﻲ اﻟﻤﺠتمعات الصناعية ، فإن عمرها قلما يتعدى السنة بالنسبة لكثيرين ﻓﻲ الجزيرة والخليج . ليس ذلك فقط ، فإن من مظاهر الإرتقاء ﻓﻲ السلم الاجتماعي : عدد السيارات المملوكة ، ونوعها، وسنة الصنع. ولعل من التعبيرات التي لا يوجد ما يماثلها ﻓﻲ أي مكان ﻓﻲ العالم التعبير المتعلق بشراء السيارات، إذ كثيرا ما يطلب المشتري ” حبّتين ” أو ” ثلاث حبّات “من السيارة المرغوبة. هذا ﻓﻲ الوقت الذي لا تموت فيه السيارة مطلقا ﻓﻲ بعض الأماكن ، كسورية مثلا، حيث تتجدد مرة بعد أخرى نتيجة الحاجة والنظرة الاقتصادية. وينطبق الأمر ذاته على السلع الصناعية الأخرى ، إذ توجد ﻓﻲ أكثر البيوت أعداد تفيض عن الحاجة أو عن المعقول من هذه السلع كالفيديو مثلا. وينشأ عن ذلك ثقافة وعادات من نمط معين كتبدّل مواعيد النوم واليقظة، وبالتالي مواعيد العمل للرجال ، وعلاقة الأم بأولادها، إذ كثيرا ما يُترك الأطفال للمربيات والخدم، ولأنواع من الثقافة والمعرفة لا تتناسب وأعمارهم. أما الأغذية التي يتم تناولها ﻓﻲ عدد كبير من البيوت ، من حيث الكمية والنوعية والمواعيد ، فإنها لا تتلاءم مع الطقس ، أو تلبية الحاجات الفعلية للإنسان ، وقد انعكس ذلك بوضوح على الصحة وعلى الهيئة، خاصة وأن القليلين يمارسون الرياضة . ولعل من مظاهر الإسراف والهوس بالاقتناء أن مجموعة كبيرة من السلع الثمينة الغالية السعر تصنّع خصيصا للدول النفطية ، كالساعات واﻟﻤﺠوهرات، وتجد هذه السلع أعدادا متزايدة من المشترين، خاصة إذا أُحسن توصيلها والدعاية لها . أكثر من ذلك: تعترف شركات صناعة العطور الأوربية ، الفرنسية تحديدا، أن سوق الخليج أحد أهم الأسواق لمنتجاتها ، خاصة العطور التي يستعملها الرجال ، والتي تفوق ما تستهلكه النساء ))