ردّي على مقال الدكتور سليم الحسني الموسوم بعنوان:
(قوة الخرافة في الواقع الشيعي).
(الحلقة الثانية)
في الحلقة الأولى من هذا المقال، اوضحت بشكل مقتضب، الدوّر الثقافي الذي قامت به، مؤسسات تنويرية أهلية، دعمتها المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأشرف، في باكورة القرن الماضي. كما اشرت الى مدى تأثير تك المؤسسات بشكل مباشر، لانضاج عقلية المجتمع العراقي، و اسهامها في نشر العلم و المعرفة، بين مختلف طبقات المجتمع العراقي، في وقت كان فيه الجهل، يخيم على المجتمع بشكل كبير جداً، بسبب رزوخ العراق، تحت وطأة الاستعمارين العثماني و البريطاني بالتتابع.
في هذه الحلقة، ساستكمل مناقشة القضية المبحوثة (قوة الخرافة في الواقع الشيعي). و لكن في البداية لا بدَّ من الاشارة، بأَنْ لا وجه للمقارنة بين وضع العراق، في حقبة القرن الماضي، بخصوص تأسيس الانشطة الثقافية و التوعوية، و بين دور المرجعية الدينية الشيعية حالياً، في تشجيع و رعاية مثل تلك المشاريع، حتى تكون نتائج (القضية المبحوثة/ قوة الخرافة في الواقع الشيعي)، صحيحة النتائج.
لأنَّ الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 أحدث وضعاً صعباً بين طبقات المجتمع العراقي المختلفة. و من ابرز سمات ذلك، زعزعة استقرار المجتمع العراقي بشكل كبير، أمنياً و اقتصادياً و سياسياً و ثقافياً، و
نفسياً، و حتى على مستوى التنازل، عن الهوية الوطنية العراقية، كحالة لها حضور كبير في الواقع العراقي (ظهرت بعد الاحتلال الامريكي للعراق)، و هذه الحالة من اكبر الاخطار، التي تهدد وجود الشعب برمته. في القرن الماضي كان العراقي متمسكاً بهويته العراقية لدرجة الاستقتال على بقائها.
هذا الخلل البنوي في كيان الانسان العراقي، أدى الى انحدار و تدهور المستوى الثقافي العام بشكل كبير، لأسباب تتعلق بادارة الدولة، و أخرى تتعلق بصراعات القوى الدينية و السياسية، التي طرحت مشاريع التناحر الطائفي و الاثني و الاقليمي و الدولي، و اخرى تتعلق بزمن القهر الصدّامي.
لقد قررت المرجعية الدينية في النجف الاشرف، اتخاذ عدة مواقف صلبة مع السياسيين، الذين يديرون الدولة العراقية، لايقاف عملية التردي و الانحدار، في الاوضاع الأَمنية و الاقتصادية، و استشراء الفساد، و هدر المال العام بشكل كبير.
وبناء علية، فان هذه الظروف القاهرة، جعلت المرجعية تنصرف للأمر الاهم دون المهم. و بناءً على ذلك، فإِني سأضع في هذه الحلقة، المعوقات التي تقف بوجه المرجعية، و تمنعها من اتمام دورها في رعاية و توجيه، عملية التثقيف الجماهيري، لدرء خطر الخرافة عن المجتمع العراقي، و بالوقت نفسه، سأُقدّم بعض الحلول التي قد يمكن تطبيقها، للحؤول دون زيادة تدهور الثقافة المجتمعية، مع تقادم الزمن.
فأقول، ان المرجعية الدينية اتخذت عدة قرارات حاسمة منها:-
الأول: عدم التدخل في الشأن السياسي. إِلاّ في الحالات ذات الضرورة القصوى التي تخص شأن المواطنين.
الثاني : الوقوف بمسافة واحدة من الجميع.
الثالث: التعبئة الجماهيرية لقتال داعش، و تأمين كافة المتطلبات لهذه المهمة الكبيرة و الصعبة.
الرابع: الاهتمام بالوضع الانساني، لكل النازحين و المهجرين من المناطق الساخنة.
هذه المواقف الايجابية التي قامت بها المرجعية الدينية، استبطنت موقفاً رخواً، بالناحية المتمثلة بتحصين المجتمع ثقافياً، و بناء المواطن الصالح، بسبب تقديم الأهم على المهم كما اسلفت.
صحيح ان الانسان الصالح، هو المسؤول عن بناء نفسه، لكنه بحاجة الى محفزات تشجعه، ليكون أكثر صلاحاً، من خلال انضاج وعيه المعتقدي و المعرفي و السلوكي.
فتلك الاسباب جعلت المرجعية الدينية، تعزف عن التفكير، بدعم المشاريع المنتجة للثقافة و الانشطة الفكرية، في مجال المجتمع المدني، خشية من انجرافها في دوامات السياسة، بصورة غير مباشرة، و بذلك تكون النتائج عكس المتوقع.
كما أنَّ هناك ملاحظات اخرى، لا تستحسن المرجعية الدينية الخوض في تفاصيلها، أو طرق ابوابها، تحسباً من الوقوع في مواقف سلبية، قدّ تسجل عليها. ومن هذه الملاحظات :
1. تحسّس المرجعية من اي مشروع له نشاط، خارج نطاق الجهد العلمي الحوزوي.
2. وجود منطقة فراغ في العلاقة بين الجهد العلمي، الذي تبذلة المرجعية الدينية، في الحفاظ على بيضة الاسلام و الحفاظ على معالم الدين، و بين تنشيط الدور الثقيفي لنشر الوعي الجماهري، بين مختلف شرائح المجتمع، ليس على مستوى تعاليم الدين الحنيف، و انما على مستوى النضج الاخلاقي في السلوك العام، و تطوير الأنشطة الفكرية للجمتمع.
3. ربما لكثرة انشغال المرجعية، في الجانب البحثي في المجالات الدينية المتنوعة، جعلها تصرف النظر بالتفكير، في تأسيس مؤسسات ثقافية رصينة، تستطيع ايصال ثقافة الانسان الصالح، لاطياف المجتمع المختلفة. علماً ان حوزة المرجعية الدينية زاخرة بالاساتذة الافاضل من الباحثين، في مجالات الاخلاق و تفسير القرآن الكريم، و العقائد و التاريخ و العرفان، و الفكر الاسلامي بمختلف جوانبه. و اننا نأمل من المرجعية الرشيدة، المبادرة بمعالجة هذا الفراغ.
4. ان مرجعيتنا الدينية الرشيدة، لا تولي اهتماماً بموضوع التواصل الثقافي و تبادل الآراء الفكرية (خارج نطاق البحث الفقهي و العقائدي)، مع مؤسسات فكرية و ثقافية رصينة، موجودة في العالم الاسلامي. و عدم السعي في محاولة تبادل الخبرات معها، في مجال نشر الثقافة المجتمعية. باعتبار ان نجاح النشاط الثقافي في بلد اسلامي ما، هو تجربة اجتماعية عملية، تركّزت فيها خبرات كبيرة، ومجهودات ضخمة، سقلتها ظروف تجربة استغرقت عدد من السنين.
5. وهذا الجمود في التواصل بين المرجعيات، يفوّت على الجمهور الكثير من فرص التنوير المعرفي، و الاطلاع على تجارب الآخرين. فالشعوب الحية تتعلم بعضها من البعض الآخر.
6. العالم يعيش مرحلة حضارية متقدمة، من اهم مميزاتها، الفضاء الالكتروني، الذي جعل المعلومات و الكتب، وان كانت بحجم موسوعات، في متناول اليد، و تصل الى المتلقي بكل يسر و بساطة و بالمجان أيضاً. لكن هذا الفضاء لم يستثمر بشكل جيد، لنشر الوعي الثقافي، بين صفوف المجتمع و الشعب العراقي، بسبب غياب المركزية المؤسساتية، التي ينبغي ان تدير برامج التوعية
الثقافية، بشكل علمي و موضوعي، لاستقطاب طاقاتنا الشبابية، و توظيفها لصالح انتاج انشطة ثقافية ملتزمة.
و لابد من الاشارة بكل وضوح، ان وزارة الثقافة العراقية، هي وزارة مشلولة تماماً، عن القيام بدورها كمؤسسة حكومية، مهمتها تثقيف المجتمع، بكل الوسائل المتاحة لها. و هذه الوزارة تمتلك شبكة كبيرة، من الدوائر المتخصصة في المجال الثقافي. لكننا نجد أنَّ انشطتها معطلة، بسبب الفساد و سياسات المحاصصة، واصبح المواطن العراقي ضحية، لآفة التخلف و الجهل و تقبل الخرافة.
اعتقد اننا لا نتخلص من مظاهر الفهم السطحي لعقيدتنا، و من المظاهر الخاطئة في التعبير عنها، ما لم نبدأ بمشروع توعوي ناضج و هادف أيضاً. يتبنى عملية الانضاج الفكري و الثقافي الشامل، لكل شرائح المجتمع العراقي. و بذلك نؤسس لمرحلة جديدة، يكون فيها المثقف الوطني، هو خط الصدّ الأول، الذي يقف بوجه كل الخرافات و الخزعبلات، التي يبتدعها المتثاقفون المتهالكون الافاكون. و عند تحصين المواطن فكرياً و ثقافياً، سيكون ظهيراً قوياً للمثقف الوطني الهادف، في محاربة شغب المشاغبين، وعبث العابثين. و الله تعالى من وراء القصد.