19 ديسمبر، 2024 2:51 ص

ناظم حكمت و روسيا

ناظم حكمت و روسيا

الشاعر التركي الكبير والكاتب المسرحي والروائي ناظم حكمت ( 1902- 1963) هاجر من وطنه تركيا الى روسيا السوفيتية عام 1921 منذ ان اصبح شيوعيا في مقتبل شبابه , ثم بدأ يدرس عام 1922 في جامعة ستالين الشيوعية لكادحي الشرق في موسكو , ثم ترك الاتحاد السوفيتي بعد تخرجه  عام 1924وعاد الى تركيا , وبعد فترة رجع الى الاتحاد السوفيتي مرة اخرى وبقي الى عام 1928, ثم عاد من جديد الى تركيا وساهم بشكل واسع ونشيط في الحياة السياسية والادبية هناك واصبح اسما كبيرا و لامعا في دنيا الادب التركي , وقضى في السجون والمعتقلات التركيةسنوات طويلة , واطلق سراحه بعد حملة عالمية  واسعة ساهمت فيها شخصيات ادبية وفنية كبيرة مثل نيرودا وروبنسون واراغون وفادييف وبيكاسو وغيرهم, و هكذا عاد ناظم حكمت  مرة اخرى الى الاتحاد السوفيتي  عام 1951 وتوفي فيه عام 1963, حيث تم دفنه في موسكو, ولهذا يمكن القول – وبدون  اي شك – ان روسيا اصبحت جزءا لا يتجزأ من مسيرة ناظم حكمت السياسية والابداعية, وتتناول مقالتنا هذه بعض المواقف التي لم يتحدث عنهاكثيرا ولا تفصيلا معظم الباحثين والنقاد الذين كتبوا عنه ,بما فيهم هؤلاء الذين كانوا يحيطون به اثناء حياته في الاتحاد السوفيتي آنذاك, هذه المواقف التي نظن انها تكاد ان تكون شبه مجهولة  تقريبا للقارئ العربي.
النقطة الاساسية التي تستحق ان نتوقف عندهاوننطلق منها في هذا المجال تكمن بالذات في رأي ناظم حكمت حول ستالين وموقفه منه بشكل عام . لقد عاد الشاعر التركي عام 1951 الى موسكو( وهي المدينة التي ترتبط بسنين شبابه ودراسته الجامعية ورومانسيته في العشرينات ), ولم يتقبل ما وجده و شاهده فيها من تمجيد لستالين ( خصوصا بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية) وصوره وتماثيله الموجودة في كل مكان آنذاك , واعلن عن موقفه هذا بشكل دقيق وصريح  وواضح و حاسم , وقد كان من المفروض ان يستقبله ستالين بعد الحملة العالمية لاطلاق سراحه من السجون التركية, وأخذ ناظم حكمت يعلن لاصدقائه بصراحة  انه سيقول لستالين اثناء هذا اللقاء المرتقبذلك الرأي وسيدعوه الى رفع تلك الصور والتماثيل, وبالطبع لم يحصل هذا اللقاء بعد كل تلك التصريحات العلنية من قبل ناظم حكمت, وقد كتب الاديب السوفيتي المعروف ايليا ايرنبورغ في مذكراته فيما بعد جملة قالها له ناظم حكمت وهي –  ( اني أحترم جدا الرفيق ستالين, لكني لا استطيع ان أتحمٌل القصائد التي يقارنونه فيها بالشمس. ان هذا ليس شعرا سيئا وحسب, وانما هو ذوق سئ. ) , وعندما انعقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفيتي , وهو المؤتمر المشهور بالتقرير الذي ألقاه خروشوف ضد ستالين وظاهرة ( عبادة الفرد) المرتبطة به, اعلن ناظم حكمت تأييده المطلق لذلك المؤتمر,بل انه كتب الى خروشوف طلبا يرجوه فيه ان يسمح له ان يحضر ولو جلسة واحدة  في المؤتمر المذكور , مشيرا الى انه يرتبط بالحركة الشيوعية منذ بداية  عشرينيات القرن العشرين , لكنهم لم يسمحوا لهذا الشاعر الحالم ان يحضر ويشارك في المؤتمر طبعا, وقد كتب ناظم حكمت فيما بعد قصيدة جميلة وممتعة وغريبة وطريفةحول هذا المؤتمر تتحدٌث عن مجئ ( الرفيق لينين )الى هذا المؤتمر, وكيف انه وقف عند ابواب القاعة التي تجري فيها وقائع المؤتمر , ثم دخل  خلسة وجلس على درجات السلٌم  قرب المنصة ووضع دفتره على ركبتيه دون ان يلاحظ  (تمثاله! ) في قاعة ذلك المؤتمر, ويختتم القصيدة هذه بالاشارة الى الامآل التي تجمعت في سماء البلاد وكأنها – ( سحب بيضاء كثيفة ).انتهى المؤتمر, ولكن ملاحظات ناظم حكمت حول الحياة المحيطة به لم تتوقف, وبدأ ينتقد البيروقراطية التي كانت سائدة في تلك الفترة, والتي كانت تتناقض كليا طبعا مع افكاره المثالية واحلامه حول الحياة التي ناضل من اجل تحقيقها , وهكذا كتب مسرحيته الشهيرة – ( هل كان ايفان ايفانوفيتش موجودا؟ ), والتي يعدها بعض ا لباحثين ونقاد الادب جزءا من الادب السوفيتي وليس التركي كما هو حال النتاجات الادبية الاخرى لناظم حكمت, رغم انه كتبها طبعا بلغته الام , اي التركية, وذلك لانها عكست حصرا  آراء الكاتب تجاه الواقع السوفيتي السئ المحيط به, وتناولت واحدة من اكثر المشاكل الاجتماعية والسياسية المطروحة امام المجتمع السوفيتي حدٌة, وهي مشكلة البيروقراطية  في الادارة وانعزال القادة عن مجتمعهم وهمومه , واهتمامهم فقط بمصالحهم الذاتية والانانية واعتمادهم على المنافقين والمنتفعين والوصوليين من حولهم , وارسل تلك المسرحية الى صديقه الاديب السوفيتي الشهير سيمونوف- رئيس تحرير مجلة ( نوفي مير ) ( العالم الجديد ) آنذاك  لنشرها, وكذلك ارسلها الى صديقه الآخر وهو مخرج في مسرح الساتيرا( السخرية ) في موسكو. اطلع سيمونوف على المسرحية وأشار الى ضرورة ان يدخل عليها بعض التعديلات من وجهة نظره , والتي أخذ ناظم حكمت  ببعضها, وهكذا تم نشرالمسرحية  في تلك المجلة الادبية المعروفة والمشهورة في الاتحاد السوفيتي, وتم عرضها فيما بعد في المسرح وبنجاح هائل. استقبل الجمهور ذلك العرض المسرحي بحماس منقطع النظير وبتعاطف كبير, وهنا انتبهت السلطات السياسية الى ذلك, وأمرت وزيرة الثقافة آنذاك السيدة فورتسفا– وهي  ايضا عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي –  بايقاف العرض ومنع المسرحية, وكان ناظم حكمت عندها في وارشو – عاصمة بولندا, وعندما سمع بذلك تأثٌر جدا , بل ان أحد الباحثين قد كتب عام 2010 مقالة في العدد السابع  من مجلة  ( صداقة الشعوب ) الروسية  الادبية الشهرية المعروفة ,  يقول فيها , ان ناظم حكمت حتى حاول الانتحار نتيجة ذلك الموقف من السلطات السوفيتية تجاه مسرحيته تلك, الا ان اثبات ذلك الحادث في الوقت الحاضر – مسألة في غاية الصعوبة.
ان موضوعة ناظم حكمت وروسيا في الواقع لا زالت تنتظر فارسها, اذ انها ترتبط بقضايا متشعبة كثيرة, منها على سبيل المثال وليس الحصر – العلاقات الوثيقة بين الادب القومي – الوطني من جهة وبين الادب العالمي, او ما هو الادب القومي – الوطني بالنسبة للادباء الذين تضطرهم ظروف حياتهم ان يهاجروا من اوطانهم ويعيشوا في مجتمعات اخرى ويبدأوا بالكتابة عن معاناة تلك المجتمعات وبعض الاحيان حتى بلغة هذه المجتمعات نفسها؟ وهناك بالطبع موضوعة كبيرة اخرى هنا- وهي العلاقة المتبادلة في الابداع الادبي بين الانتماء الايديولوجي للكاتب في وطنه وموقفه الذي ينطلق من نفس تلك الايديولوجية في اوطان اخرى ( لقد طرح بعض مواطني الاتحاد السوفيتي  آنذاك هذه التساؤلات امام ناظم حكمت قائلين- ألم يشاهد الكاتب الضيف لدينا سوى تلك الظواهر السلبية في مجتمعنا؟) , وبشكل عام فان هذه الموضوعة تشغل مكانتها المتميزة في دنيا الدراسات الادبية النقدية , واتمنى ان تثير هذه المقالة الوجيزة انتباه المعنيين تجاهها, وهو الهدف الاساسي من طرحها, واتمنى ايضا ان تسمح ظروفي بالعودة اليها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات