19 ديسمبر، 2024 1:50 ص

ناطق خلوصي.. ورماد الذكريات

ناطق خلوصي.. ورماد الذكريات

ناطق خلوصي كاتب من طراز خاص، سنوات طويلة وهو ينحت في صخرة الأدب الواقعي ، وأيضاً في صخر الواقع الذي نعيشه، وفي كل رواية نراه يتحدى اعتبارات النشر والذوق السائد للقرّاء ممن يبحثون عن الرواية الخفيفة الظل والمعنى، مصرّاً على أن لايتخلى عن اعتبارات مهنة الأديب والمثقف ودوره في المجتمع.
” البحث عن ملاذ ”  ، آخرعمل روائي له صدر نهاية عام 2016 يتوّج به المسيرة الطويلة والمخلصة للأدب ، التي ابتدأت عام  1978 مع أول مجموعة قصصية “الهجير”  ، ثم عادت مع أوّل عمل روائي له ” منزل السرور عام  1989 ، ليتوقف بعدها عن الكتابة الأدبية ، وليتمتع ويمتعنا معه ، بالنقد التلفزيوني والترجمة، لكنه لا ينسى عشقه الأول الرواية ليعود اليها عام  2011 في رواية ” الخروج من الجحيم 2001″   ثم ” تفاحة حواء”  2004 و” المزار ” 2005 و” أبواب الفردوس ” 2013 و ” اعترافات رجل مهم ”  2015  وأخيراً ” البحث عن ملاذ ” ، التي يقدم لنا فيها  وصفته المعتادة في كتابة الرواية الشديدة القرب من الواقع، لكنها بعيدة عن التسطيح الواقعي،  وفيها يفرد الصفحات  لتتبع أحوالنا في السنوات الأخيرة، ونراه يجمع فيها حكاياتنا ،  ليرسم من خلالها صورة لمسيرة الخراب والآسى ،   ومسيرات الهدم  والرشى والفساد التي تطبّق على الناس البسطاء  الى حدّ الاختناق.
في روايته الأولى “منزل السرور” ، عبّر خلوصي عن تجربة فريدة  في رصد الواقع  وأمتازت الرواية، وبعدها معظم أعماله، بدرجة عالية من الصدق  والجمال ، فنحن في “منزل السرور” مع طيف من الشخصيات تمثّل القاع الاجتماعي لبغداد،  مجموعة عوائل وأفراد من مهن مختلفة: الشرطي القادم من جنوب العراق ، وبائع السكائر المتجول ذو الرجل المقطوعة ، وموظف البلدية ورجل الدين الأمّي ، والرسام الطالب في معهد الفنون وأمّه وصديقه عامل الكهرباء، وثمّة نسوة أخريات، رواية متفردة تذكّرنا بأجواء غائب طعمة فرمان، وتدل على التأثر الكبير الذي لعبه الروائي المصري نجيب محفوظ على ذائقة ناطق خلوصي الأدبية.
في “البحث عن ملاذ”  ، نتتبع سيرة وحيد المرزوق أحد لصوص بغداد الكبار الذي يحوّل ثروته لبناء عمارة ضخمة في مصر” عمارة الفيل الابيض ” ،  سيرته تقول إنه لا يحمل سوى شهادة المتوسطة، وكان موظفاً بسيطاً في أمانة العاصمة، مشهوراً يتقاضى الرشاوى، ذهب بصرورة غريبة الى أمريكا  ، وبعد سنوات يعود  بهيئة  جديدة، ليتمَّ تعيينه مسؤولاً عن البطاقة التموينية، لتبدأ  رحلة الصفقات المشبوهة ، وبعد أن تتضخم سرقاته يترك الوظيفة ويذهب الى مصر، يبدأ من هناك رحلة اخرى في تزوير الوقائع والأحداث والتمتّع بما سرقه من الأموال، هكذا يسجّل ناطق خلوصي بلغة شفافة مشاهد صغيرة من الحياة التي نعيشها كل يوم، مشاهد لا يصرّ فيها الكاتب على بداية أو نهاية، يصرّ فقط على نقل التفاصيل كما هي بكامل حيويتها مطعمة بالافراح والمآسي ، ، حكاية ليس المهم فيها وجود الموعظة والدرس الاخلاقي ،  ولكن الأهمّ تفاصيل الحياة.
ناطق خلوصي، أكثر الكتّاب الذين اقتربوا من  بغداد محبّة وتعاطفاً وحميميةً، رغم المرارة التي كانت تترسّب في أعماقه عندما تنعكس صورة مدينته  فى روحه  المحبطة ، بغداد  مدينة الطفولة، والأحلام، والرغبات الصغيرة ، والانكسارات ، والدموع.
يكتب  ناطق خلوصي الكثير من الحكايات ،  عن الشوارع  والناس، والعشق ، واسرار النساء ورغبات الرجال ، يقبض دائماً على الأحداث  بأصابعه النحيلة، ولا يترك شيئاً لطواحين النسيان، يكتب عن كفاح بغداد  ضد التزييف و التشويه، والموت  ، عن أمراضها، وافراحها ، عن أحزانها ومسراتها  ،  عن أهلها  الذين يعبرون نهر الحياة، فلا يتركون وراءهم سوى رماد الذكريات الذي يغطي دروبها الضيّقة.

نقلا عن صحفية المدي

أحدث المقالات

أحدث المقالات