7 أبريل، 2024 6:46 ص
Search
Close this search box.

ناصر قوطي مابين ذكرى أمه والرهان المستحيل

Facebook
Twitter
LinkedIn

أسس لحوار متشابك لكنه هادف بين الحاضر والغائب – أقتصرت جمله على (المعرف) ليدلل على عمق الترابط ما بين الاسمي والفعلي
بنى ناصر قوطي قصته القصيرة ( نمل وسكر) على إرهاصات اليأس ، وخيوط سير النمل الذي لف تربة المقبرة التي لم يشر إليها بشكل مباشر واستعاض عنها بجملة ( كنت أجلس في الترب ثملاً) ، ومنها يتبين أن المخاطب هو صورة أمه التي فارقت الحياة ما يبرز حنينه لها .

غلف ناصر الحوار بمخاطبة الغائب ( ذكرى أمه) ، لكن حواره كان حياً شاخصاً للقارئ وكأنه يخاطب شخصاً أمامه يتبادل وإياه الحديث ( لا تكثر الشرب بني) ، الحبكة التي أدار بها حواره هي تعبير عن معاناة وجدانية ظلت تحاصر فكرة القصة منذ بدايتها حتى النهاية ، داخل معها قوطي انتقادات عدة لأوضاع معيشية وعلاقات لا تخلوا من مكر بين الناس ، حتى انه أراد تشبيه الحياة التي يترقب بسرب النمل التي جاء عليها في عنوانه كونه منظم لا يعرف إلا خط سيره ولا يعرف الخيانة ، لذلك قال ( لست نملة يا والدة وأعرف السعي الشريف ، ولكن ليس من وراء أقنعة الذئاب) وهي إشارة لما يمارس من خديعة في الحياة اليومية المعاشة .

لا ادري إن كان ناصر قوطي أراد أن تكون قصته هذه ( قصيدة نثر) ، لكنه دفع بها على شكل قصة قصيرة ، ولا ادري لماذا تذكرني بقصيدة ( حفار القبور) للسياب ، فهي تشبهها في الجو العام والمعني الضمني ، إلا إنها لم تكتب بنسق الشعر المعروف ، واستبدلها قوطي بشكلها الإنشائي ( النثر) .

هي في العموم ترانيم باتجاه واحد يحمله صوت ناصر قوطي مخاطبا أمه حيناً ، وحيناً أخر يخاطب النمل الذي يُضيع طريقه إن عمدنا لتغيير مساره ، قصة ناصر قوطي ( النمل والسكر) فكرة بسيطة عبر قصيدة نثرية ، كتبت بعيداً عن الشعر وأُلبست طابع القصة عنوة ، لكنها جاءت على قياس اليأس الذي يلف المكان والحالة التي أراد ناصر أن تصل الى القارىء عبر سرب من النمل ، وحوار مع غائب حاضر في الضمير ( أم ناصر) .

وفي قصته ( ذكرى) وهي فعلاً كما جاء على تسميتها وأجاد ، فقد كرس فيها حقيقة الغياب الأبدي ( الموت) بحروف دقيقة شفيفة ناصعة التعبير دون خلل ، وقَصدتُ كلمة ( ناصعة) للدلالة على سلامة التعبير لدى ناصر دون أن تشوبه شائبة تُعسر الفهم أو تدلل على غير معنى، فجاءت كلماته بوضوح الشمس لا لبس فيها.

درج فيها على جمع كل استذكار ات طفولته ليُعبر من خلالها على نقاء المشاعر التي تربى عليها جيلاً بأكمله تجاه من نحب ، وكان أن أختار رمزه هذه المرة شخصية محببة لدى الجميع على اختلاف أعمارهم ( الجَدة) ، وهي الموروث الذي لا ينضب ، وسيل من الشواهد الثابتة في الضمائر ، فأبدع ناصر حين اختار لذكراه صورة ذلك الرمز المحبوب ، الذي رسم من خلاله استخدامه عنصراً بارزاً تُبنى عليه القصة أو الرواية ، وهو من عناصرها الرئيسية التي داخل معها المكان والزمان والإحساس ليرسم صورة قصته كاملة عبر تقلبات الزمن الذي تناوله منذ طفولته حتى وفات هذا الرمز ( جدته) .

حبكة القصة كانت مكتملة المعنى عبر الاستذكار ، وتقلبات الدراما الحركية في القصة جاءت على هدي ما أراد قوطي ليبين إن الزمن هو الفاعل الأهم في تقلبات الحياة ، يأخذ وفق الأقدار المرسومة ما يريد دون أن يترك لنا حرية الاختيار، ولان المكان محبب ومعبر عن مسار الطفولة ، فهو مرسوم في الذاكرة لا يغادرها حتى في اشد الظروف حلكة ، لذلك تراه عاد حين الفاجعة ( موت جدته) الى ضفة النهر ليجد الأثر الذي تركه وقد زال ( شاهد القبر الصغير ، ريشة الطائر) ، وهو تعبير ضمني على أن ليس هناك ماهو مخلد لا كائن ولا مكان.

ذكرى ناصر قوطي كانت مليئة بالشجن والآسى الذي رافق قصص ناصر الأخرى التي جمعها في بوتقة حزن واحدة ، فجاءت بطابع درامي وجداني جميل .

وأختلف ناصر قوطي في ( تردد) عن ما سبقها من قصص ، فقد كرس فيها واقع الحياة اليومية التي يعيشها غالبية عظمى من المجتمع بفطرة ما تربوا عليه من مجريات يومهم، مدخلاً المقارنة البغيضة بين الشرائح والتي تبين واقع خريطة المجتمع بأركانه ، وكأنه يريد أن يفصح عن وجع التقلبات السياسية الحاصلة في البلاد وتبعات ما يعاني منها الفقير المعدم ، في (تردد) ذهب ناصر قوطي لنقد الواقع بدقيق عباراته مؤشراً خلل ما يجري وتبعاته الكبيرة التي تقع على عاتق الفقراء مقابل ما يمتاز به أصحاب الأموال ( الأغنياء) الذين يجيدون اللعب على وتر الفقر والألم لحساب مصالحهم .

تردد كانت بمثابة ثورة على الظلم ما يدخلها في الأدب السياسي ، أو النقد السياسي في الأدب ، لذلك هو بدل ثوبه الذي لبسه في ( النمل والسكر، وذكرى) ليخرج مكنون ما يتفاعل في ذهن الكاتب من نقمة على واقع مؤلم بات الفقراء حطب استمراره ولو على حساب حياتهم.

لذلك هو يسجل علمه بكل ما يجري بلسان الفقير (أعرف كل الذين يُفَتتون الأحلام من حولنا، وأعرف جيدا جميع الجدران والسجون) وما يعانونه من تبعات لمجرد اعتراضهم أو المطالبة بحقوقهم ،ليكون مصيرهم السجن الذي خبروا جدرانه أو عدوها عداً، مسجلاً نقده لما يعد تجاوزاً على الإنسانية وآدمية الإنسان جراء تعسف أجهزة السلطة في قمع الفقير واضطهاده. تردد ناصر صرخة مؤلمة على واقع فعلي نعيشه ، لذلك أنا أسجلها ( أدبا واقعياً) ، للحياة أكثر منه للفن .

أما في ( أمنية) فقد ركز ناصر قوطي على فقدان الأمل (حتى بت أحلم بالرجوع إلى الوراء عسى أن تكون الأعوام التي مرت تعادل ما تبقى من رماد السنين التي قد لا تجيء)، وهو تعبير عن التمني بما لا يتحقق ، حتى أن أمه كانت كما قال (وهي تثقل رأسها المثخن بالرؤى) أي ما تتمنى ، لكنها ليست حقيقة ، وهو ما يدخل ( أمنية) في باب الغيب أي الخيال ، وفيها لم تكن أمنية ناصر حقيقة ، لكنها واقعة رغم التمني .

استخدم ناصر في أمنية التشبيه فأصاب بتعبيره ( تطلي الأعوام راسي بالفضة) وهو تشبيه دقيق يعبر عن المشيب الذي غزا رأسه ، ورغم ذلك هو لايزال يعيش في عالم التمني ، أي لم يحقق مما أراد شيئاً، لكنه ركز على واقع وحقيقة وسط سيل التمنيات التي أوردها بنصه (ولسانها يبسمل ويلثغ بالدعاء) وهنا أراد أن يقول أن المنقذ لا يغيب عن فكر الإنسان وهو الأمل المعهود وطريق ذلك الدعاء، لكنه لم يكن فيما أورد موقناً إن ذلك حاصل حتى عبر خط العمر الأحمر كما اسماه، فعاد الى التمني ليطلب ما فات ، لكن السنين لا تعود .

بدأها ناصر بالتمني وكان ختامها تمني ، أمنية ناصر مكتملة المعنى دقيقة الوصف مكتملة الأركان ، داخل فيها بين المنظور والأفق المفتوح ، فرسم ابعاد أمنيته على حدود الخيال

فالمتخيل، لكنه كرس لحقيقة أجاد في وصفها ( رماد السنين التي قد لا تجيء) أي أن الأماني قد لا تتحقق في معظمها ، وهو مدخل واقعي لنهاية حتمية لمن يتمنى مالا تدركه أيدينا.

أما في رهان فقد ذهب ناصر قوطي مذهب المتحدي وبإصرار على كسبه إلا إذا تحقق ما ذكر من شروط (يحتسي ، يذرع ، يحصي ، المشردين ) ، هي صورة لما في المدينة من مآسي ، يؤكدها عبر الرهان ، هي رهان الخاسر مؤكد كونه لا يتحقق ، هي إعجاز في التعبير ليبني عليه اطر قصته التي أجاد باستخدامه توصيفات عدة ، وأسماء كثيرة ، لجهة التعريف بزيف هذا الرهان وبطلانه، فمن ذا الذي يجمع بتهوفن بالمشردين إن لم يكن عبر خيالات قوطي ، حَمَلَ ناصر قوطي قصته تناقضات بل متضادات العالم ليكسب الرهان ، لكنه على يقين بأن المستحيل لا يتحقق .

لذلك فهو نص واقعي ضمنه هذا التناقض ليوصل فكرة الاستحالة بجمع المتضادات، رهان جميل ومعبر ميز ناصر قوطي عن غيره في استخدام المتناقضات في حبكة النص ليخرج لنا وفق الصورة التي عليها من الجمال.

(وحاولت أن أغفو وإذا بها تنهض مذعورة كما لو عقرب يلسع نفسه)، راحت تولول راكضة “لا تريد الذهاب، أعرف حججك، أعرف” وكان صوتها يخفت كلما ابتعدت حتى أختلط مع وشيش الدهن بمقلات الفطور)

نصوص ناصر قوطي التي تنوعت طرائقه وأساليبه، واختلفت بما ينسجم مع قواعد القصة أحايين كثيرة بما يكسبها وقْع الحاضر والآنية في نفس الوقت، حاور ناصر بأسلوبه الشيق الذي اتصف بالإبداع وذهب فيه لاستخدام الذكريات في اغلب الأحيان ليجذب القارىء بذكاء ، وهي صنعة الكاتب لشد انتباه قراءه متنقلا بين الواقعي والخيال ، متناولاً التركيز الذهني لرموز ثابتة اجتماعياً ليدخل منها في أحيان أخرى حبكة القصة ويُصعد ذَروتها بحوار مشفوع بالحنين ، وليؤسس منها منهجاً يفضي الى ركيزة قائمة على التخيل ورسم الصورة التي يريد من خلال بوابة الذكرى ، لجأ في العديد من جمله التي ربما أقتصر فيها على (المعرف) ليدلل على عمق الترابط ما بين الاسمي والفعلي ، وليشكل عبر تداخل الرؤى بين جيلين حبكة ما كتب من نصوص أفضت في معظمها لتأسيس حوار متشابك لكنه هادف بين الحاضر والغائب ، ومن ثم ليخرج بنص متكامل في المعنى ومستوفي لعناصر وشروط القصة بأكملها، فاستحال ما كتب الى عوامل جذب للمتلقي للاستمرار بالمتابعة حتى نهاية سطور ما كتب بإبداع.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب