23 ديسمبر، 2024 3:14 ص

نارك خضراء … ليلك أبيض ملف عن الشاعر حسين عبد اللطيف

نارك خضراء … ليلك أبيض ملف عن الشاعر حسين عبد اللطيف

شمعة حسين عبد اللطيف
في الضحى الاخير للشاعر حسين عبد اللطيف،كانت مكالمتي الاخيرة، أخبرته أنني جهزتُ له قرص سي.دي ثالث عن سعدي يوسف وسأترك القرص في مكتب الشاعر كاظم اللايذ فأخبرني انه سيرسل المترجم عباس محسن، ليستلم القرص…آخر لقاء مع الشاعر كان في بيت الأديب احسان السامرائي في حزيران من هذا الصيف،وكانت أمسية جميلة، حسين عبد اللطيف والدكتور عامر السعد وحسين عجمي واحسان و.أنا .. دعاني حسين للمشاركة في ملف سيعده عن الشاعر سعدي يوسف فلبيت الندوة خصوصا وانني كنت يومها اتناول جانبا من قصائد سعدي، ثم تطور الامر، حيث وفرت له من ترجمات سعدي لفلاديمير هولان وأورنغاريتي،وغونار، وفاسكو بوبا،وأقتطعتُ له من حوار أجراه مع سعدي بيت الشعر المغربي..أثناءها كنا نتواصل يوميا حسين وانا …مرتين في اليوم أو أكثر، انتبهت الى نبرة حسين، كانت خافتة متأنية مسترخية فتوجست ُ بنفسجا يتضوع منه صوبي ! فسألته عن صحته أجابني : على الله..ذات ليلة اتصلت مرتين ثم …في صباح اليوم الثاني اتصلتُ جاءني صوته فرأيتُ وجهه المبتسم بنبرة صوته: كنتُ نائما البارحة بسسب الدواء..أين وصلنا؟في اليوم الثاني وكان ذلك قبل ان يغدر بنا ويغادرنا بأيام ،هو اتصل بي فأقلقني صوته؟ سألته: ……فأجابني قبل قليل كنت واقفا وسقطت على رأسي شعرتُ يقولها بهدوء مريب..وربما شَعَرَ بشعوري ،فصاح بي : لاتقلق انا الآن سأذهب الى كاظم اللايذ وآخذ القرص الذي أودعته أنت عنده..

بعد مكالمتي الاخيرة معه بثلاث ساعة وثلث الساعة،يظهر شريط نعي في (العراقية)..فأقرأ شريط كما كتبه حسين في أحدى قصائده :

(يوم كل الارواح

أشعل شمعة

وأحتفل

بموتي !)..

يالها من مصادفة قاسية، كنت اشارك الشاعر حسين عبد اللطيف، في ملف يعده عن الشاعر سعدي يوسف، اتمنى لسعدي العمر المديد بزهوة الاخضر، وها نحن ننشر ملفا عن حسين عبد اللطيف، ويتأجل الملف المعد عن سعدي يوسف، وهكذا يستبق الموت مع الابداع ،وكالعادة يصل الغراب ،ليعيق الحمامة وغصون الزيتون…أجل ..أجل ياحسين:

(حتى البحر يموت)..هكذا علمنا لوركا…

من… قصائد حسين عبداللطيف

نافذة

أعلنت العاشرة والنصف،

ليلاً دقت الساعة

نافذة الشاعر مطبقة الاهداب

تبكي نجمة ساهرة

والربيع في الساحة

هائمة، حائرة

ترتجف الاغصان

وفي سكون الليل تعوي الكلاب

لتوقظ الساعة

شيئا…فشيئا

أفتح الاجفان،لم ألمح البستان

لم ألمح الحارس والسكران

لم ألمح الفضة في الالوان

لمحتُ نفسي آخر الساحة

هكذا كل يوم

في بلدة آمالي

لاتوجد

إطلاقاً

شجرة

في الأيام

لم أتمكن

من ايجاد

الباب

طوع العين :الليل

طوع الليل : الرمل

طوع الرمل: النسيان

ماأرحب هذي الصحراء!

ماأكثر ماتبصر هذي العين !

بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق

بلقالق ميتة

*مطر الشتاء يهطل،

من الناي

ينبعث

حزن غامض

*يتناهى الى سمعي

رغم برودة الخريف

صياح الاوز المهاجر

*القمر مكتمل

الناموسية الخرقاء

تسرّب

شعاعه

*حين يقبل الصيف ،

ماأعذبه

كوز الماء البارد

على الشفاه الظمأى .

*ليلة سقوط الثلج

ماذا الَمَ بالشحاذ

فلم يطرق بابي

العشاء يبرد

*كما للراهب

كذلك للص

الحق نفسه في التطلع الى قمر

*أعمال الشاعر

*على الطرقات أرقب المارة – وزارة الاعلام – بغداد 1977

*نار القطرب – وزارة الاعلام – بغداد – 1995

*لم يعد يجدي النظر- دار الجمل – ألمانيا – 2005

*أمير من أور – دار الينابيع – دمشق -2010

*بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة – وزارة الثقافة – بغداد – 2012

*كتاب التساؤلات بابلو نيرودا/ كتاب الاجابات حسين عبد اللطيف / ترجمة واعداد

سحر أحمد- دار ازمنة – عمان

القطرب السومري *

في رثاء حسين عبد اللطيف

فوزي السعد

أيها الهابطُ كالنيزك من سماء أور

أشهد أنك آخر ملوك سومر العظماء

آخر أيقونة في زقورات لكش

آخر نهار لفجر السلالات العريقة

أشهد انك آخر قطرب منير

في ليل سومر

حين قررت أن تطفئ نارك

ترحل عن عالمنا

قبل أن يجبروك على الرحيل

برصاصة قنّـــاص يترّبص بالحالمين

أو تتطاير أشلاؤك

بتفجير حزام ناسف

أو سيارة مفخخة

هكذا أ صبح عالمنا

في كلّ لحظة

يصطادنا الموتُ قبل الأوان

….

فارحل أيها القطرب السومري

ارحل سريعاً الى عالمك البعيد

وهناك إذ تسير

كن واثق الخطوة

ولا يأخذنّك الفزع الأكبر

حين تعبر – كما تقول أمهاتنا –

قنطرة الصراط المستقيم

إلى مثواك الأخير

فإنك ماكثٌ الى حين

في انتظار من يوقظ فوانيسك

يوقظك .. يوقظ سومر

لتؤسس

سلالتك الجديدة

* إشارة إلى أبرز دواوين الشاعر ( نار القطرب )

ضيف ليلة الجمعة

( في رحيل حسين عبد اللطيف )

مجيد الموسوي

فجأةً !

هكذا دون أن نتوقعَ

في لحظةٍ قرر الضيفُ أن يرتحل

لمَّ في عجلٍ ما تناثر

من بعض أوراقهِ

وحقيبته .

وأرتدى معطف الجلد , أسود

ثم استدار إلينا وغمغم مرتبكاً

* كم أود المكوث !

ولكنني آسفُ

لم يعد لي

مكان هنا …

***

كان يبدو لنا مثلَ طير السنونو

وحيداً ومرتعباً يتوغلُ

في وحشة اللانهايات ..

أين ستمضي اذن

أيها الضيفُ

هذا مكانك

كن كيفما شئتَ

هذا السرير , سريرك

تلك الملاءة عابقة بشذاك

وعطر الكتاب الذي كنت تقرأ

يا أيها الضيفُ : مائدة الصبح مبتلة بالندى

والعصافير لما تزل بعد في غفوة الفجر

لولا تلبثت شيئاً

أما قلت

في لحظة الصفو :

” في الأرض ما يستحق الحياة

وفي الشعر ما يُشتهى من فضائلَ “

…….

كان يلملم أوراقه ذاهلاً

ويشير الى جهةٍ

أو الى غير ما جهةٍ

دونما رغبة

ويرامقنا نظراً زائغاً

وهو يمسح عينين مخضلتين

* أنا متعبٌ وحزين

ومحتدمٌ بالأسى

وبفوضى تطوّق روحي

ولكنّ ثمة طيراً غريباً أُلاحقه

ربما ذات يوم

يحطّ على كتفي

آمناً

ويغني …… !

…….

اذن هكذا أيها الضيف

ما عاد متسع للسؤال : لك الأرض واسعة

والفضاء المديد

خذ الزيزفون المشعشع

خذ زهرة الرازقيّ

التي كنت تعشقُ

خذ كتب الشعر

والشعراء

وآخر ما قد كتبتَ ..

…..

ولكننا سوف نذكر

انك كنت الأحبّ إلينا

وكنت الأليف الأحب

الوديع

….. وداعاً

وداعاً

وداعاً

تموز 2014

ملاعب الطفولة

في شعر حسين عبد اللطيف

شاكر حمد/ فنان تشكيلي وكاتب

[ سعيدٌ أنا الآن, موتي مريح ,

دعي الباب لا تفتحي الباب, وحدي

لمن تكتبين]

من قصيدة الشاعر”أيها البحر يا راعياً يا صديقي”

من الحكاية الطفولية تولد الاسطورة الخيالية وترتدي ثوب الغرابة – الفن- وتُصاغ بالمفاجئات وتكتنز بالأشباح والمخلوقات المركَبة والعجائب . وترسخ في الذهن وبشكل تراكمي, أزلي, يقربها من التصديق والدهشة .

الشاعر حسين عبد اللطيف في –حكاياته الليلية- يعود إلى منطقة طفولته… يستذكر حاراتها وأسواقها، وباعتها الجوالين وقصص مشاهداته الاولى… يرى في ذكرياتها عودة إلى الحب الحقيقي إلى النار الخضراء فيدعوها ، يستدعي ذكرياتها:
[وأدعو الطفولة لتجلس قربي فما لي سواها، حمولهوما لي، سواها، متاع]

-نار خضراء-

آثر الشاعر ان يجعل ذكريات زمن الطفولة حمولته الوحيدة ومتاعة في الدنيا، إذ يتذكر جولاته الطفولية في الأسواق البغدادية ورؤيته المآذن والقباب وتزاحم المارّة في الاسواق حول الباعة – وعروض البيع في محال الحلوى والفاكهة، وتحفظ ذاكرته منظر البطيخ مقطعاً إلى أضلاع – كل ضلع هلال- يقول ( في أحاديث بيني وبينه دفعتني للكتابة عن تجربتهِ الشعرية) كنت أعدّ هذه الأضلاع أحد عشر ضلعاً في كل بطيخة!! ويرى صينية الحلوى الملونة المقسمة إلى مثلثات وقريباً منها صينية العاب الحظ وما تحويه من أشكال متنوعة،( كانت تلك أولى مشاهداته للسوق الشعبي في الكاظمية بصحبة والده وهي المشاهدة التي أنطبعت في ذاكرتهِ الشعرية. وسنلاحظ مشاهدة ثانية مماثلة في حياتهِ لاحقاً وهي زيارتهِ لباريس وروما صاغها في قصائد لمرئيات الفن الأوربي) في ما بعد يشاهد الشاعر لوحةً لخالد الرحال تصور بائع الحظ (جقجه قدر) التشكيلة الملونة المتجاوبة مع الحس الطفولي , تلفت إنتباه كل الأطفال وتترك انطباعها في الذاكرة وتنمو صوراً وتراكمات وتداخلات صاخبة لا تفارق الذاكرة… صور راسخة عن مشاهدات الطفولة.

في ذاكرة الشاعر – أفعال- الصخب.. حركة الدوران, الفرارات، ودواليب الأعياد، العاب الزار وارضياتها الشعبية صارخة الألوان الشبيهة بلوحات موندريان وبول كلَي… وهكذا تلونت صوره الشعرية بالحس اللوني الطفولي لتلتقي في النهاية مع مؤثرات الفنون الأوربية التي شاهدها فيما بعد.

بيئة المدينة إمتدت إلى موضوع القصيدة وإلى شكل النص في تأثيرات انطباعية وعلامات تاريخية ثابتة ظهرت في نصوص كُتبت عن الطفولة وفي اخرى كرموز واستذكارات واشواق ، فأورد مقاطع من ترديدات الاطفال في قصائد تستعرض العالم الطفولي وفيها أصوات الأطفال ولغطهم اثناء اللعب.. إنها ودائع حقيقية لأزمنة الإلفة والبراءة.[تمر اللقالق -زوراق ملآى زنابق-ترى السرب منها يعود.تر… آ… ه؟!فقصِّر حبلك…طوّل حبلك… آ..هيصيح الشقرّاق… آ..هجناحيجناحي…وها أنا أبحث عن مقعد… أو حديقةوعن موعد…أخلفته

] – نار خضراء-

النصوص التي تتجه نحو عالم الطفولة ذات التصميم الإستعراضي القروي المتسق مع مدرسة السيّاب، خاصة في تضمين النص ترديدات طفولية, وفي مشاهد استذكارية ومناظر أزمنة الطفولة، تدور, تلك النصوص, حول ملاعب الطفولة في حياة الشاعر, وذكرياتها وفي التقاطعات الحادة بين صور الحاضر وصور الماضي ما بين الصعود نحو عالم الطفولة وافراحها والهبوط إلى واقع الاحزان وحالة الواقع .

في أدراج منظومته الإستعارية طبقات من التاريخ والموروث الشعبي ومن الحكايات والامثال وبوظائف تعبيرية، صوتية، لونية ينقلها الشاعر بالحفاظ على نسيجها الحكائي نصّاً،

في جذورها أرضية البيئة القروية وروحها، تبث الحياة في الزوايا المطلوبة ، بمثابة إنطباعات يتضمنها النص الأشمل, تركيب إنطباعي في قصائد بعينها.

استلهم الشاعر فكرة القصيدة – الطفولية- من حكاية أو ترديده يرددها الأطفال كما ورد ذكر البعض منها، وفي سياق مشابه يقلب الحكاية, الترديدة او الأغنية الشعبية إلى نسق بنائي باللغة الفصحى، وبين هذا الاداء وذاك فإن القصيدة تدور حول حكاية في مكانها وزمانها ولهجتها وما يتخللها من ذكريات، حكايات طفولية, رحلات في الاسواق، ذاكرته تحفظ مشاهدات الصبي الهزيل بصحبه أبيه لاحد أسواق بغداد ( سوق الكاظمية, كما روى لي عن ظروف كتابة هذه القصائد) فيذكر موجودات السوق , أًصوات الباعة وتعليقاتهم ومبيعاتهم، يرتبط السوق بروحٍ المدينة، إلفتها وعنفوانها وانفتاحها إذ لا مدينة ولا مدنية بدون السوق وضوضائه وملتقاه من كل الأطراف والمناطق، وقد تركت هذه المشاهد صورها في ذاكرة الشاعر، رؤيةً ولغةً وتاريخاً وتسيَدت على – تكوين- نصّه الشعري في القصائد التي يرفرف فيها جناح الذكريات فوردت المقاطع والجمل والإشارات التي تعود إلى مشاهدات [السوق].:

[النهارُ بذرائع مكشوفةٍ وأحابيل تحت القناع]

البداية.. النهار ثم روح السوق,النبرة الإعلانية, الذرائع المكشوفة والاحابيل السوقية واخلاقيات البيع والشراء والخداع والحيلة والشطارة, وفي توغل نبرة الباعة ولهجاتهم الى الشعر, نُطل على روح الدعابة ونمط الفنطازيا الشعبية..

[بائعٌ بمكاييل للسمسمِ صار يكتالُ (ماش) كلما أقلبت امرأة بعباءتها صاح يا (أناناس) العلب مُذ متى صرت في علبٍ من (قماش) ]

يشير إلى اساليب الباعة بعرض ما يغري ويدفع للشراء ولكن يقدم البضاعة الأقل جودة كحكاية – السمسم والماش- في الأمثال الشعبية, ثم صوت البائع المبطن بالغزل والتحرش اللفظي كلما أقبلت إمرأة أسمعها صوته (يا أناناس) ويكمل جملته (مذ متى صرت في /علبٍ/ من (قماش)، ويقصد جسم المرأة المعلب في قماش بهذه التكنية الإعلانية السوقية.

في مكان آخر من هذه القصيدة يتذكر الشاعر – صبياً هزيلاً- وعمره يتضح من نطقه ولهجته… وفي النص قفزات زمنية، مرةً في زمن الطفولة ومشاهد السوق وأُخرى في زمن كتابة القصيدة، الزمن الداخلي وزمن السرد، يورد الشاعر في الزمن الأول صوراً من الإكتشاف يسميها- الانكشافات- وفيها عروض متتالية من تحويرات التعابير اليومية وقلب الحكاية إلى – الفصحى- والإستعارة المباشرة والتطعيم بالألفاظ اليومية لخصوصيتها الزمكانية في منسوق السرد ثم الطفرة الحكائية – سرد كتابة النص- زمانه وصوته الخاص ودرجته العليا من الوعي..فالصبي الهزيل الذي صحب أبيه في أسواق بغداد..[الصبي الهزيل أًصبح اليوم أُعجوبةً اذ أتى في الصباح على (مرطبان) كامل من مربى الأجاص] -السوق-

للنص الشعري, هنا, بيئة محيطية مادية ومؤثرات صوتية صاخبة, ينشأ عندها الفعل الشعري. الضوضاء الإعلانية تشكل البيئة المحيطية للنص الفنطازي الطفولي..

وهي مرحلة ومحطة شعرية مازحة كتب فيها الشاعر عددأً من النصوص لكنه إبتعد عن ممازحة ذلك العالم بعدما تسرب صوت الأنين الى شعره وتسيدت العوالم الليلية على ملاعب الطفولة ومن وحيها كتب قصائد يتغلغل في مناخاتها الخوف من الظلام وتصور مشاهد قروية ليلية وحكايات ينسجها رواة يسردون أفعال الطبيعة المرعبة للأطفال. وفي قصائد الطفولة تتجاوب المفردات الباعثة للخوف والمستجيبة للتلقي الفطري في تشبيهات وأسماء وأفعال وحركات وأصوات ومنظور عام لمشاهد ليلية تتحرك فيها أشباح تتلاشى تدريجياً في الظلام. وتتكون من حكايات تبدأ بلقطة لمنظر إفتتاحي يكشف الستار عن حدث غامض وإيحاء ميتافيزيقي صوري.

اطلعني الشاعر على قصيدة له بعنوان – مزمار الحمامة النائحة – قبل نشرها في “المنارة” العدد 386 -حزيران 2007 ، بُنيت القصيدة على صوت الحمامة – الفاخت- وهي تنوح في أعالي النخيل ومنها الترديدة التي يرددها الصبية في القرى تجاوباً مع صوتها الحزين… [ياكوكتي … وين أختي.. بالحله.. واشتاكل… باجله..] وكما في قصيدة –السوق- والنصوص الاخرى المستعارة، نقل مضمون الصوت والترديدة المرافقة له إلى اللغة الفصحى.

الترديدات الشعبية من مصادر منظومته اللفظية والصوتية والشعورية, كما هي عند السياب, وهي مصادر لمادة خام كالطبيعة ومركباتها، وبعد – التصنيع – في قوالب الفن الشعري وإعادة الصياغة يظل البعد الداخلي لمضمون – الترديدة- الشعبية حاضراً في قيمتها الصوتية, كما لاحظنا في قصائد سابقة تدخل في هذا السياق.

إستطعت أن أزعم بمعرفة شيء من جذور محاولاتهِ التجريبية في هذه البيئة الطفولية والدهشة المصاحبة لها, فقد تآلفت حزمة من العناصر الشعبية الفنطازية لتقف في النهاية عند أروقة الفن التشكيلي الأوربي الشعبي وبالذات عند لوحات بروجيل الأكبر وفي رسوماته عن الأمثال الشعبية الفلاندرية وعن ولائم الفلاحين والعميان الخمسة يقودهم أعمى. وقد تحولت اللوحات الى نصوص في قصيدة حسين عبد اللطيف الرثائية لصديقه التشكيلي الراحل أحمد الجاسم. والمعنونة ” أمير من أور”…

القصائد التي كُتبت عن الطفولة او إنحازت لعالمها … إعتمدت على نقطتين محوريتين، الأولى صياغة العالم الطفولي – البراءة الملائكية – وهو العالم الداخلي الحسي، والثانية وضع بؤرة – التهديد – الخارجي للعالم الاول.. ففي[ تحليق] و[الزبير] كانت التهديدات تأتي من الطبيعة… الذئاب ومحيط الليل والبرق والصحراء والوهاد والعقارب والمطر.

ترى أين يكمن الخطر في عالم الطفولة؟

في الحقيقة أن التهديد يكمن في إيقاع ما قبل ومابعد النص وفي وحدة الشاعر –الراوي- الذي يعيش عزلته الطويلة ويبحث عن عالم جديد- وطفولي- من الحرية والبراءة، عالم سيكون ملاذاً ليلياً للحكايات الاليفة، وفي معاناة وحدته.

إكتشف الشاعر ان جدلية( الحرية والخوف) هما ركيزتا منهجة الفكري الراسخ ورسم بموجب هذا التضاد خرائط عالمة ومنها خرائط عالم الطفولة محاطة بالمساحات السوداء وهي, الطفولة, تشعر بالاخطار، تعيش الخوف وحسب، والطبيعة البدائية, المبهمة, أحد مصادر هذا الخوف, وتنعكس سايكولوجية الخوف (التخويف) على معظم الحكايات الطفولية الشرقية.

في قصيدة [خدين] تصوير لعالم الخوف بدءاً من إحاطة المشهد بالإنذارات الليلية ورموزها وسوادها وأصواتها…

توحي البداية للوهلة الاولى بإنفصالها عما يجري في الخطوات التالية من – أحداث- ومظاهر:

[ما الثمرة /في الانكشاف /غير نهد الشجرة]

وفي منسوق هذا المفتتح موعظة وأحكام فلسفية تحاكي النصوص المسمارية وتعاليم الكهنة، وتفتح الستار عن غموض محتمل( يستثني البؤرة الجنسية في رمزية الشجرة وفعل الإنكشاف)

بعدها يتحول الراوي نحو الليل وما يسمع فيه من صداح القبَّرات .. [تستيقظ القرى/ وتختفي بنات آوى في الطلول والمغاور المجاوره] وانكشاف السحره [يغوون مَنْ؟/ بسحرهم/ ترى.]

ألقت -البداية- ظلها الغامض على مجمل الصور التالية.. إنحسار الليل، انكشاف وبداية ضوء جديد وتراجع السحرة.. المشهد منفصل عمّا يجري بعذئذ في نقطة – الذعر- الطفولية، الذعر لا يشير إلى مصادر أخطار مباشرة، كما هو خوف الأطفال في أزمنة التهديدات الخارجية التي يحسها الاطفال ولا يدركونها عقلياً، هي أقوى واكبر من وعي عالمهم، إن العالم الطفولي مصاب بردة فعل، إزاء الحاضر، فالحاضر هو مصدر هذا الخوف لذلك يبحث الشاعر عن – تسليات- لهذا العالم وذلك بالعودة إلى عالم آخر – كان- اليفاً مسالما وديعاً- في الأزمنة الماضية، غير ان البداية – المواعظ الغامضة-.. وضعت المؤشر الأول للتهديد بنقل منظور عالم الطفولة البريء الى ضباب سريالي.. والى مشاهد قروية تعود الى حكايات الجن والسحرة ومجاميع الحيوانات الليلية.. بالتالي فإن حالة الطفولة القادمة – المصابة بالذعر-ودونما أسباب واضحة ,كما يتضح من النص ,انما تعود الى محيط عام وشامل من الخوف في زمن الراوي الاول- الشاعر- لهذه الحكايات وتوصيفاتها: [بين يدي : ذعرةً خائفةً أضحك منها ضحكةً مستتره أهمس بالقول لها انصحها ماذا جرى؟ يا ذعرتي ماذا جرى؟ حتى تكوني هكذا… مرتاعةً بل… حذره!] ثم يتنبه الراوي فيجد في [الخوخ الذي/ يعقد سراً سكره] وعداً لطمأنة الذعرة المذعورة :

[هنيهةً

نامي مع الخوخ الذي

يعقد سراً سكره

على يدي…

لا تجفلي ولا تفري طائرة]

…….

يضع الشاعر -الاطفال- في قلب الحكاية الليلية ويحيطهم بغاباته وصياح مخلوقاته المتوحشة كالذئاب والنمور ويعتمد الاصوات :-

[هذا صياح النمور

يأتي من الغابة

أعلى صياح النمور

أعلى من الغابة

تهتز منه الجذور تخاف اسبابه]

عواء الذئاب ونباح الكلاب وصياء العقارب وفحيح الافاعي، أصوات الخطر في مجابهة الطفولة وتهديدها.

في – دوارة الرياح- يتقاطع الوداع الحزين في – الانا- المستطلعة للأخبار –تحملها الرياح- من مراكش ويختفي الفرح, يتقاطع مع سرب اللقالق التي حفظتها ذاكرة الشاعر من ترديدات الطفولة، لم تبرح الذاكرة, وتقفز بين الحين والآخر لتسد الفراغ [كان سرب اللقالق أخضر نشوان تحت القمر … يعبر النافذة] سرب، او سلسلة من الذكريات، السرب الذي تلاحقه أصوات الأطفال وتخيله الشاعر- زوارق ملائ زنابق-

الطيورُ تشغل الشاعر, إنبثقت صورتها من ترديدات طفولية, وتملأ ذاكرته بألوانها وأنواعها وإرتفاعاتها وانتظام طيرانها ولها حضور دائم في منظومة الأشكال الرمزية التي تؤلف عناصر الرؤية والتخييل و من خلالها، يعيد، ويستعيد النقاء الكوني للطبيعة لقد وجد في أسمائها وأجناسها تسميات وتجنيسات لكوامن داخلية يريد الإفصاح عن حقيقتها، عليه فكل نوع من الطيور له صورته الخاصة ,الإكتمالية ,الرمزية , التي تعبّر عن بعد آخر أو حالةٍ معنية، ففي سرب اللقالق رؤية الأمل في لحظات حلم عابرةً…

***

شبّه الأطفال في [تحليق] بالطيور أو الملائكة يهبطون باجنحة الخيال وجعل السحابة تهبط, كطائر, وتخطفهم وتنسحب. في قراءتنا المطولة عن الشاعر بعنوان ” ساحر الأفاعي” وجدنا ثيمةً سينمائية بتقنية أفلام الرسوم المتحركة لهذا النص المنفذ بالأسود والأبيض.

خضراوية سيد صالح

عبد الملك عاشور/ فنان تشكيلي

في ذلك اليوم وعلى ضفاف شط العرب، كنا جالسين أنت وأنا، بيننا طاولة تساقط بفعل الزمن، الكثير من لونها الاخضر، على الطاولة : هكذا تكلم زرادشت، الزا وعيون الزا، مملكة محمد خضير، مجموعة شعرية للشاعر كاظم الحجاج، للأطفال ان يحبوا ،كما يؤكد الأديب احسان السامرائي..

كنا نصغي الى ثرثرة الموج، كان الصمت أطول من الكلام،فنحن زملاء عمل، في دائرة حكومية واحدة، يداي ملطختان بأحلام فرشاتي ..وقلبك متناثر في قصائدك الباذخة..(أووف…أوف) قلتها بنبرةٍ خفيضة كأنك تقولها لنفسك،لكن ارتفعت نبرتها بفعل سقوط استكانة الشاي على قميصك الرصاصي..فمسحنا الشاي بقهقاتنا المشتركة، ثم برشقة ماء، ثم عدنا للهدوء نفسه ولشاي جديد لكلانا، فأنزلقت والاصح انزلقت ذاكرتك من جلستنا ،صوب البواخر الملونة والسفن القادمة من التوابل..(مهيلات) يترجل منها رجال ناحلون بسمرة داكنة، ثم أحسستك تعود صافيا مثل موسيقا تحبها، لحظتها مر بنا نورس يبشرنا بمقدومه، لحظتها رفعت رأسك يا صديقي ايها الشاعر حسين عبد اللطيف، في اتجاه زاوية 45درجة مع جذع شجرة يوكالبتوس..محدقا بكل مافيك من عمق الى تلك النخلة… نخلة منحنية كأنها تهمس

النهر، بكلامٍ خاص..نخلة ذهبها من النوع الذي نسميه (خضراوي) أما النخلة

فنحن نسميها (خضراوية سيد صالح)..أشرت بعينيك نحو النخلة ، ثم همست ْ

: يأتي يوماً ياعبد الملك وأنحني مثلها…

الآن…بعد غيابك الشرس، لماذا مثلت هذه النخلة أمامي؟ لماذا هي وليس ذلك

التاريخ المشترك بيننا.. ياحسين يا زميلي في مديرية(النشاط المدرسي) وصديقي الرائع ..هل تعلم ان هذه النخلة صارت قرينك، كلما تذكرت ُ الشط أو قصدته ُ (على الطرقات أرقب المارة)

ها أنا أعود الى (التنومة)، بزورق، أهبط من الزورق ،في ذلك المكان حيث جلسنا

،أخطو على رؤوس اصابع قدمي، مخترقا نبات الدغل الصغيرة، وطراوة الطين

كنتُ خائفا من حدثٍ ما …

سمعتُ أنينها، سمعتها تئن قبل رؤيتها من كثب، حقا

(لم يعد يجدي النظر)..فتحت خطوات طوال فوصلتُ إليها..

صرتُ في كنف (خضراوية) سيد صالح، رفعتُ رأسي نحوها، ثمة اصوات غامضة، ثمة إيماءات بين سعفها وكربها وتمرها ثم اتضح لي نواح..نواح فواخت

جلستُ في ظلها النحيل..مر بي نورس، هل هو النورس ذاته؟ أعني نورس جلستنا

تلك ؟ في ذلك اليوم الرائق؟ هاهو يفتح جناحيه ، يحلق على صفحة الماء،

ثم يعود ليحط على طرف سعفة يابسة ، فيسود الصمت..صمت..صمت… صمت

ثم يتساقط الحشف والرطب من العراجين، هاهي خضراوية سيد صالح نخلة آيلة للماء وهو في حالة مد ..نعم صار المد عاليا، تساقط الطين الذي يحيط جذور النخلة

أقصد ذوّبتهُ (المدّه)، هاهي الخضراوية، تفتح سعفتها لتحضن الماء..ليأخذها بعيدا

بعيدا..ليأخذها عميقا عميقا.. وهاهو صوتك ياحسين اختلط مع الاشياء

(حاشاك إلهي

لايعلو الماء سوى الماء)

—————————————————————————–

تذكارات لآيام الشجن ..

الشاعر

حسين عبد اللطيف ..

احسان وفيق السامرائي

أيه أيها الشاعرالذي عليه ان يصمت

أن الكلمة لتبدو فرضا علي ألان ..

وأن ملاين الذكريات تلح عليّ الان..

بل اكثر من ملايين ..

” مالك حداد”

“وانتظر تك والليل الغارب بلا عودة ..

في ارض القطارات المنسية ..

يغرقني الالم فلا استجيب

كيف يبدو رحيلك الان ..

يا شاعر الظل والتذكارات والدموع ..

وألبوقات الحزينة “

**

في العاشرة صباحا تردد صوته الرقراق ..

بعد ألافطار سأكون والدكتور عامر عندك ..

* ولم لا تأتيان للافطار ..”برحيتنا الصغيرة بانتظارك “

* أصبحت صعبا .. فالطريق ألينا كهذا النهار يزخ بالعرق و التعب .. لا تنس ما طلبت من بحوث لآنني أعد ملفا جديدا عن “سعدي “ولك عندي مجلة ألمأمون ..كانت هجرة الفراشات جميلة ولي فيها ملحق صغير ..

* لقد ترك”مقداد ” عندي .. “هدوء الفضة ” هي بانتظارك الليلة ..!

***

* في الثالثة عصرا رن الهاتف ..

* ” صرخات أشعلتني بالخوف , أرعبني البكاء .. صارت البصرة غابة الخوف … التلفونات تتشابك “

“غالبت الصراع والشك وعدت أدير ألآرقام..وأرتد الصوت الفاجع ..

أذا .. رحل شاعر الشجن والحقيقة والحب ..شاعر العذاب وألامال الدفينة ..

*”

” ماتت الذكرى على أعقابه ..وتلاشينا..وداعا يا غريب..”

– سلمى الخضراء الجيوسي-

**

وظل يتلوى مثل عصفور صغير .. غابت من عينيه الرغبة بالحياة ..

– يقرضنيي الالم ويحجب عني النوم ..

عندها همس لي الدكتور عامر السعد ..

حسين ..يرفض العملية و هذا حكم بالموت انه لا يستجيب لنا .. انت من يستطيع أقناعه !؟

“كنت مثل كاهن عليه ان يتلوا الاعتراف .فيقدم كاس ألشيكران ألسام لآحب ألاصدقاء ..”

***

كنا وحدنا بين الاعتراف بالقدر والمجهول ..

أرعبتني ملاءات المستشفى …لونها المبشر بالموت

وقد تحول لونه ألاسمر الى عشب اخضر دب به الذبول ..

* والان يا حسين..أخائف أنت من العملية ؟

* ليلتان والنزف في قلبي ..فالالم لايطاق…أعترف لك بالخوف ..

* وكم ستستمر المقاومة ؟

“أشرت الى ممر المستشفى وما خلف الزجاجة المتسخة الفاصلة بيننا . ..

* أحباؤك ينتظرون وسيظلون ينتظرون الموت ..

هل يرضيك ذلك ؟

* “ابنته رسال ..محمد خضير والدكتور عامر

و الدكتور سلمان وعباس محسن و محمد صالح عبد الرضا وجاسم العايف وو ..”

“عاد يضغط بقواطعه على شفتيه من ألالم في أستيحاء”..

* كانت القصيدة عندك.. تتحدى الموت فلماذا تنهزم منها ..؟

* أتريدني ان أبقى رهين المكان بلا حركة ..؟

* ومن سيتمم لنا ما بدأت..؟

“عاد يتلوى بالم “

* أتريد ان تتركنا وحدنا .. “نسيت” ..كنت تصب في روحي ألامل واليوم تهزمك ألالام ..؟

“انقلب على جنبه وتلمس يدي في رفق و أنتفض”.

” في عينيه رأيت البحر وشمسه وأصوات القطارات تنزف الجروح والدخان..”

* لقد وافقت ..

” لحظتها رأيت العيون فرحة ملآتها الدموع “

ثم ..

جاء اليوم الاخير ..

ها نحن نجوب أقاليم ألمدن

بورود من صنع ألايدي ..

ومصابيح ..

ها نحن على ألابواب ….نصيح

ألريح

الريح

ألريح

“دون جدوى “

“كان وداعه دموعا وأهات وقصائد بلا عناوين وعناوين تنتظر الرد ..”

—————————————————————————–

أسى القصيدة

محمدصالح عبدالرضا

الى روح حسين عبداللطيف أخا وصديقا سبع وأربعين سنة

فوق موج من الشعر

كنت تنساب يا صديقي

وتوميء للعشب

ممتلئا بعبير الصداقة

هازئا بالدموع

تقلب أوراقك وتمعن فيها النظر

لتقتل وحشة القصائد

تتصفح آلامك الباقيات

مخترقا حقول الهيام

باكيا عذاب البشر

تتأمل عجائب تضيق بها الروح

وطيورا تحلق في سماء الكآبة

وأنت على تراب الأرض نجمة

ياشاعرا أضاء قوافل الشعراء

صديقا لكتاب ظل يقرؤه

ويتقن وهج الفرادة

منذ لامست الثرى

حملنا كل ذكراك

ونازعنا الدموع

وها اننا نحن اليك

على جنح حزن وحلم

أيها الهائم بالشعر

سوف تغني لك القصائد

بترانيم مثقلة الخطى

ونحن نرقب المارة على الطرقات

عساك تمر ولم تمر

ولكنك مررت على حدائق القلب

عانقت أعلى الغصون

وصرحت بالراحل الى البصرة

سلّم على أصدقائي