نادي المهن الغريبة.. تشيسترتون

نادي المهن الغريبة.. تشيسترتون

تشبه رواية “نادي المهن الغريبة” المجموعة القصصية، إلى حد كبير. يبدو كل فصل منها مستقلا، ومع ذلك فإن جميع الفصول متجانسة شكليا. يتبع غلبرت كيث تشيسترتون نفس النمط السردي الخاص بكتابة القصص البوليسية: لغز أولي، وتحقيق، وحل منطقي للمشكلة. فضل تشيسترتون في هذا العمل المحاكاة الساخرة المسلية.
إن توظيفه للمفارقة يقوده إلى تطوير القصة نحو نتائج غير متوقعة. يستمتع تشيسترتون في هذا العمل بإرباك القارئ. تشبه شخصياته شخصيات الروايات الغامضة التقليدية. المحقق موهوب، يتمتع بذكاء لا يمكن الوقوف في وجهه، يتفطن للمكائد التي يجد الناس العاديون – بما في ذلك مساعديه والقارئ- صعوبة في فهمها. وإلى جانب هذا المحقق الاستثنائي، هناك شخصان ساذجان، شقيقه والراوي، يفكران ويحققان ويستنتجان. منطقهما، المستوحى من أفضل المحققين الخياليين في عصرهما، ليس له أي فائدة، فهو ملوث بالمنتجات الثقافية الجماهيرية، التي تدفعهما إلى اعتبار الجريمة والجنون التفسيرين الأساسيين لكل لغز. إنهما بمثابة مساعدين رائعين لشارلوك هولمز أو هيركيول بوارو. في حين يبني شريكهما المحقق باسيل غرانت -وهو قاضي سابق- منطقه على مفارقات لا يمكن للعقول البسيطة الوصول إليها.
لا يتوقف باسيل غرانت عند ما يتوقف أمامه الآخرون، فهو يفكر بناء على منطق خاص به. يجتر الشخصان الساذجان، لا إراديا، التفسيرات الفيكتورية، حول الجريمة، ولندن، والفقر.
تتطلب الجريمة في السيناريو “البوليسي” التقليدي، حلها على أسس بسيطة: من المستفيد؟ وفي نهاية المطاف، يعوّض الجنون غياب الدوافع. ويعمل المحقق بوسائل بسيطة: الاستنتاج، والتطبيق المعقول لسلسلة من الأسباب البسيطة، واستخدام القرائن، وما إلى ذلك. وسواء كانت هذه الأساليب بدائية -كما هو الحال في بعض القصص القصيرة التي كتبها إدغار ألان بو ودويل- أو معقدة للغاية -مثل المسلسلات التلفزيونية التي حلت محل الذكاء البشري بتقنيات علمية محسنة- فإن النمط متطابق.
إن “نادي الوظائف الغريبة” عمل أدبي ممتع. تشيسترتون جريء ومبهج وساخر، وأسلوبه يحتضن الأفكار غير المتوقعة لبطله. إنه يسخر من النهج الجاد للمحققين الخياليين. يعتقد معظم المقربين من البطل أنه مجنون. تبطل آراؤه المنطق الجماعي، المنطق المشترك بين الناس. لا ينشأ التفسير من شبكة ضيقة من الاستنتاجات، وإنما من تلقاء نفسه، بشكل غير متوقع، ويحمل في طياته جميع تأملات القارئ الشاقة. يبني غرانت تفسيره على ما يمكنني أن أشبهه بالصدفة والحظ. أو ربما الفرصة الغامضة للاكتشافات، القدرة على اكتشاف ما قد يجد المنطق التقليدي صعوبة في الكشف عنه. يكمل الخيال والحدس المنطق: إنها مسألة انحياز إلى جانب ما، لبضع لحظات، والمضي قدما -وبعيدا- عن المسار المحدد. تكمن قوة تشيسترتون في وضع هذه الصدفة بشكل طبيعي، كموسيقى رائعة تأخذ القارئ إلى أراض جديدة، حيث يظهر ذكاء نادر.
المهندسون والمحسنون في هذا المؤلف فئتان سيئتان متفقتان على احتقار الشعب.
وأخيرا، في هذا العمل الأدبي هناك ميل إلى نثر بعض الحكم التي تنير الأجواء بنور بهيج. منها :”نتحدث دائما عن الأشياء الأكثر أهمية للغرباء… لأنه في الغريب نرى الإنسان نفسه، صورة الله التي لا تشوه بسبب التشابه”.