بعد أنْ أدّت حركاتها بدقةٍ ورشاقةٍ متناهيةٍ، جلستْ تنتظرُ النتيجةَ. لم يكنْ أمامَ الحكّامِ المذهولين إلاّ أنْ يمنحوها العلامة الكاملة. المدهشُ أنّ اللوحةَ الضوئية التي صممتها شركةُ الساعات السويسرية الشهيرة (لونجين) لم تستوعب الأمر، فسجّلتْ صفرينِ إلى اليمين وفارزةً ثمّ صفر والرقم واحد. لم تعرف لاعبةُ الجمبازِ ذات الاثنتي عشر ربيعاً ولا مدربها، كما لم يجد الجمهور سببَ هذه النتيجة المخيبة لأداء كامل.. أخيراً عرف الجميع إنّ هذه اللاعبة أصبحتْ أولُ امرأةٍ في التاريخ تنالُ العلامة الكاملة، وإنّ ساعةَ (لونجين) التي لا تخطئ اضطربتْ أرقامُها لعظمة الحدث.. لقد كانت نادية كومانتشي الاستثناء الذي استحق هذه الدرجة سبعَ مراتٍ متتالية!!
قبلَ دورةِ الألعابِ الأولمبية في مونتريال 1976 لم يكنْ أحدٌ يعرفُ هذه الرياضية، كما أنّ والديْها كانا ضَجِرين من الطفلةِ التي لا تهدأ ولا تتوقف عن الحركةِ واللعب منذ أنْ بدأتْ تحبو، ولولا أنْ تتنبه لها عينُ مدربِ الجمباز بيلا كارولي الخبيرة، لحوّلت كومانتشي بيت العائلة إلى خراب!!
الموهوبُ ـ بحسبِ تعريفِ المختصين ـ هو منْ تتوافر لديه استعدادات وقدرات غير عادية أو أداءٌ متميزٌ عن بقية أقرانهِ في مجالٍ أو أكثرَ من المجالات التي يقدّرُها المجتمع. وبحسبِ هذا التعريف، لا يمكنُ للكثيرين اكتشافُ ما يمكن أن تصبح عليه نادية كومانتشي إذْ ليس فيها ما يميّزها عن أقرانِها سوى نشاطها غير المعتاد وامتلاكها طاقةً هائلةً تؤهلها للعب آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ من دونِ كللٍ أو مللٍ، وهي في هذا لا تختلف كثيراً عمّا نراهُ ونسمعَهُ من آباءَ يشكون دوماً من (وكاحة) أبنائهم. الفارقُ بين مستقبل كومانتشي وما آلَ إليه حالُ أجيالٍ عدةٍ من أبنائنا أنْ عيناً ثاقبةً رأت الإمكانية، ويداً خبيرة عرفتْ كيف تُصْنَعُ بطلةٌ عالميةٌ تحوز لبلادِها تسعَ ميداليات أولمبية، خمسٌ منها ذهبية وثلاثُ فضيات ونحاسية واحدة. وفي حين أصبحتْ كومانتشي واحدةً من أهمِ لاعبات القرن العشرين، فإنّ كثيراً من أبنائنا الموهوبين أضحوا أرقاماً في التعداد العام للسكان لا نفع يُرتجى منهم، بل أنّ بعضهم صار عدّوا لمجتمع لم يجد منه يداً حانية، لأننا ببساطة شديدة
نرى في كلّ طفلٍ كثيرِ الحركةِ مصدراً للإزعاجِ والقلقِ يستحق بسببهما عقاباً شديداً!!
الموهبة لا تُعلنُ عن نفسِها ببساطةٍ، والموادُ الخامُ التي تسير بفضلها الحياة ويُصنع منها الجمال، لا تتهيأ بغير العلم مصحوباً بالكدّ والجهد والعرق.. الموهبة ليست حكراً على أحد، والموهوبون لا يسقطون كالمطر على أرض ويذرون أخرى.. الموهوبون موجودون في كلّ مكانٍ وزمانٍ، وهم مثلُ أيةِ آلة موسيقية تبقى مجموعة أوتارٍ وخشبٍ إنْ لم تمرَّ عليها أصابعُ عازفٍ بارعٍ.