23 ديسمبر، 2024 11:54 ص

مِداَدٌ في عباب 48- 52

مِداَدٌ في عباب 48- 52

-48-
تتبنى اغلب الدول في عالمنا اليوم، فسلفة واحد من مفكريها، يضع بصمة على حياتنا، ويلقنون مبادئه للاجيال الجديدة منذ نعومة اظفارهم، لكي يشبوا وهم معتنقون اياها، مطبقين لها على حياتهم، ونحس ان ذلك الفكر وتلك الفلسفة خيط ينتظم المواطنين ومنه يستمدون المنهج الذي يسيرون عليه.
نرى هذا في امريكا، والبرغماتيكية، وانحيازها الواضح لفسلفة جون ديوي. كما ان المانيا مفتونة بأفكار نيتشه والقوة. وفرنسا ما زال ديكارت والشك من اكبر المؤثرات على تفكير ابنائها. ونجد نفس الشيء بالنسبة لفرانسيس بيكون في انكلترا، وقد جعلني هذا اتساءل:
* ترى اي فلسفة نعتنق؟ ومن هو الذي تأثرنا نحن العرب به، وترك بصمة على فكرنا واسلوب حياتنا؟
اعرف ان الكثيرين يبتسمون في اشفاق من محاولة الاجابة على هذا التساؤل، بل ان البعض سيجدها فرصة لاطلاق الفكاهات الساخرة..
لدينا خليطاً غريباً من الافكار، اغلبه تراثي، مضافاً اليه بعض الاراء المستوردة، الأمر الذي ندرك معه اننا بلا فلسفة، وبدون منهج، وان حياتنا تمضي بلا نسق ولا نظام، اذ تمضي بنا الايام، يسلمنا يوم الى آخر، دون تفكير او مهاناة، وبلا رغبة على الاطلاق في استثمار تلك الهبة الالهية التي منحنا اياها، وهي (العقل) وبعضنا يرى ان الفلسفة سفاسف يجدر بنا الا نقف عندها، وانه لا فارق بين فلسفة واخرى، ولا حاجة بنا الى هذا الصداع، خاصة وقد (رزئنا) ببعض من الساسة العباقرة الذين يريدون ان يكفونا (شر التفكير) لانهم يفكرون لنا، وفي السبيل لصياغة حياتنا كما يروق لهم وكما يتصورونها، كما اضحى لدينا طائفة عظيمة لكل منها فكرها الخاص الذي تفسر به ما اوصى به للحاكم من حكمة وفلسفة، لا يأتيها الباطل.
وهكذا عشنا كمسبحة انفرطت حياتها وتناثرت، ولا امل في انتظامها في خيط واحد مرة اخرى، لاننا نفتقد هذا الخيط الفكري.. وتفرقنا ايدي سبأ.. كما تقول الحكمة اليمنية العربية القديمة. نرددها ونحن نتذكر كيف عاشت الفئران فساداً في السد. ورضى البعض بذلك التفسير الساذج وتصوروا ان الفئران يمكن ان تقرض او تهدم سواه، لكننا نعرف عن يقين تلك الفئران البشرية، رغم انها لا تمت للبشر بصلة، التي تعيش فساداً في كل شيء وتعبث به الى ان تقضي عليه قضاءاً مبرماً..
واعرف اننا لم نعدم من يريد لنا فكراً شمولياً، مع انه من الواضح انني اريد لوناً من وحدة التفكير بين ابناء امتنا يكون مبنياً على اساس قوي ومتين، ولنختلف ما شاء الله لنا الاختلاف في التفاصيل وفي التنفيذ.. لدينا مجال كبير للاختلاف، ونحن نبحث مع الاسف على اقل قدر ممكن من الاتفاق كابناء وطن واحد وامة واحدة..
ترى هل تقبلون يا امة العرب، ان يكون صاحب الأثر الاول في فلسفتنا وتفكيرنا ومنهجنا الحياتي هو الرسول محمد بن عبد الله (ص)؟
نحن بحاجة الى ان نفكر معاً في قضية الانسان العربي والفلسفة التي تحكم حياته.
-49-
من العلوم التي اعتز بها العرب ومنحوها من ثقتهم ما جعل هذا العلم يأخذ موضوع الصدارة، علم التاريخ. ولا نريد الدخول في اوليات هذا الاعتزاز او الاسباب الداعية لمثل هذا الاهتمام لأن علماء التاريخ قد حملوا لنا بعض الحقائق وكشفوا عن الجانب الاساسي عندما اعتبروا التاريخ وثيقة، ونظروا احداثه باعتبارها عبراً ومواعظ تتجاوز الحالة الحاضرة لترسم المستقبل وتستوعب الحدث، لتجد منه منطلقاً لبناء الحالة المطلوبة.. بهذا الايجاز المبسط وبهذا التعليل المنطقي تقبل الناس الموضوع، وانصرفوا الى قراءة التاريخ منتفعين من احداثه او متجاوزين، مستوعبين عبره، او متغافلين، فكتب على الذين آمنوا بعبره ان يتلمسوا الحكمة ويعرفوا الحقيقة ويمتلكوا اسباب التعقل، وذهب الذين لم تنفعهم التجربة الى ما ندموا عليه، ولات ساعة مندم.
والغريب في هذا العلم، انه ساير حركة الانسان وهو يصنع حياته، وواكبه وهو يسجل تطوره ويحقق اساليب تقدمه فكانت بداياته حكاية وحديثاً عابراً وقمة واسطورة وملحمة ثم كتاباً يقف عند الغزوة والمعركة والسيرة وبعدها اسفاراً تسلك مسلكاً افقياً لتتحدث عن الزمن، مصحوباً بالحدث او عمودياً لتخترق الحالة الى اعمق سطح فيها، لتعللها او تعرف على الاقل مسبباتها، حتى استوى هذا العلم في زمن التدوين قصصاً تروى واخباراً تسجل وحكايات سمر تتلى للعبرة تارة وللتسلية والفكاهة تارة اخرى. وتبقى عبره التي طوتها الاحداث بارزة يجد فيها الحكماء بغيتهم ويطيلوا الحديث عنها ويقفوا عند كل جزء منها او يضيفوا اليها من عندهم ما يجعلها اكثر ملائمة واقرب معاصرة او يغيروا بعض تراكيبها لتأتي منسجمة مع القصة المروية او المثل السائر او الحكمة المطروحة…
والتراث العربي الذي شهد مرحلة التدوين وألف حياة الجدل المنطقي وازدحم بتيارات الصراع المحتدمة واستوعب سلسلة الافكار المناهضة، اعطى كل صفحة من هذه الصفحات وجهاً من وجوه التخصص واثرى كل حكاية بما ينقلها الى مجالس الجمهور وهي تحمل الفكرة النيرة والعبرة الحكيمة والصورة المقنعة، فأسهم المفكرون في اثراء فكر الجماهير واغنوا عقول الناس بما ابعد عنها كل حالة غيبية وفكر اسطوري ومعتقد فاسد، فاستوى الناس في مقاييس العلم حتى تقاربت المشارب واقتربت المآخذ فهل قرأنا التاريخ لنعتبر..؟
-50-
من المؤكد ان المجتمع الدولي ينظر نحو وطننا العربي بالكثير من الدهشة، وان القوى المسماة بالقوى الصناعية يسعدها واقع وطننا وامتنا، وترى فيه فرصتها للانقضاض على قرارنا السياسي وعلى وحدتنا المقدسة وعلى ثرواتنا وعلى حاضرنا وتسعى الآن بهمة وعنصرية لجعل مستقبلنا رهينة مخططاتها وبرامجها.
ولأننا أمة بأصدقاء كثر في هذا العالم، فأن هؤلاء الاصدقاء لا بد ان يتساءلون: ما الذي يحدث في هذا الوطن العربي؟ ولماذا كل هذا التمزق والتجزئة وتبادل البغضاء والتحالفات التي لا تعود على طرف واحد بالخير، الا اذا كان الخير هو الاستسلام لارادة الآخرين وقبول هيمنتهم، وهؤلاء الاصدقاء الكثر يجدون ما يقولونه علانية، وان كانوا في السر لا يخفون الحديث عن المخاطر المترتبة على بقاء الواقع العربي على ما هو عليه، وعلى تأثير هذا الواقع السيء علينا اولاً وعلى الآخرين، اذ ان منطقة تتحول الى مستنبت للحقد ومزرعة للبغضاء، ولا يبدو الكثيرون فيها مستعدين للارتفاع فوق الجراح والكوارث، هي منطقة مدمرة لسواها فوق كونها تمارس انتحارها اليومي.
ليس هناك من يحب ان يصب زيتاً على النار، ولكن الحريصين على ابقاء الجراح مفتوحة والاقتراب منها بالاشواك عند كل لحظة التئام لا يقدمون لانفسهم خيراً، فهذا الوطن واحد، وهذه الامة واحدة، ومن يتوهم قدرته على ان يعيش معزولاً ومنعزلاً عن الآخرين وعن العالم يمارس جلداً للذات ورعاية للخراب سيدفع وحده وقبل سواه ثمناً غالياً مقابلاً له.
نحتاج الى وقفة امام الله والعروبة والاسلام حتى لا يظل هذا الوطن اسير ظروف استثنائية ستصبح قاعدة للتعامل العربي اذا لم نقف بشجاعة امامها، ونعمل جميعاً على تجاوزها ومحاصرتها، ونحتاج الى شجاعة من نوع خاص تجعلنا نلتقي على الحد الادنى من الاخوة ومن المسؤولية ومن الالتزام بما نرفعه جميعاً من شعارات وطنية وقومية واسلامية وانسانية، وسوى هذا استمرار في خداع الذات وخدمة لاعدائنا جميعاً وخذلان لاصدقائنا الذين يراقبون خير امة اخرجت للناس فيشعرون بالحزن والألم.
-51-
ما زالت الحياة لغزاً لم يستطيع ان يفسره الانسان، يأتي على غير قصد منه، ويذهب عنها على الرغم منه، وليس ذهابه بأقل عجباً من وجوده. فماذا بعد الموت، وماذا ستكون عليه الحياة، ومن آمن فقد اراح نفسه عناء السؤال، ومن شك كما شك ابو العلاء، فقد صاح محتجاً (ما كان اغناها عن الحالتين).
وما زال الانسان في ذاته لغزاً فاق في غموضه لغز الحياة، بل هو احجية الاحاجي وعبرة العبر، فما اسهل ما تصدر عليه حكماً واذا به حكم خاطئ، وما اكثر ما تصفه بأنه عاقل وحكيم واذا به لا يخلو من تصرف خسيس او مشين. وقد يظهر لك بمظهر التقي واذا به شهواني كبير، وقد يتكلم كثيراً عن معاني الانسانية ودفع الضر عن الناس ولكنه لا يتورع عن امساك السلاح وشن الحروب وقتل الانسان، فلم هذا التناقض في الجسد الواحد، وهل هذا من طبيعة الانسان؟
يخيل الي ان الانسان شيطان رجيم كما هو انسان رحيم، وما نراه من تناقض في اعماله ليس الا نتيجة لهذا الصراع الدائر بين قوى الخير وقوى الشر فيه، ولست مبتدعاً شيئاً فيما اقول، فهذه هي النتيجة التي توصلت لها خبرة الانسان على مر العصور.
ما العمل اذن، وكيف نخفف عن النفس عناء الحياة وغموض الحياة وآلام الحياة؟
رأيي المتواضع ان يتخلى الانسان عن الاعتداء بما لديه من قوة عقل وفكر، ويفتح قلبه اكثر للحياة، فهناك حياة في التأمل بالطبيعة وجمالها.. ثم ابحث عن صديق واجتهد في الحصول على الصديق، فما كل من عرفته وتعاملت معه وضحكت معه وعشت معه بصديق، لأن الصديق الحقيقي هو المرآة التي ترى نصفك الثاني فيها، ويرتاح قلبك حين تحيا معه.
وكن مسامحاً في الكثير من الامور، وتحمل اذى الناس، وتذكر (أنما أنس القلوب الصفاء)، ولا تخف كثيراً من الفقر والحاجة في المستقبل، فحياتك الحقيقية هي اللحظة هذه التي تعيشها الآن وليست ما هو خاف في علم الغيب، واذا ما صعب عليك هذا الكلام، فما عليك الا ان تعتزل الناس، ولكن في هذه الحالة لا تكن فارغاً، لأن في فراغك هذا وحشة لك وألماً.
-52-
للابداع هوية لا يجرؤ على ادعائها مبدع اصيل، ويجاهر بها الجاهل المدعي وهو يترنم بها في كل مجلس، متهالكاً على دوائر الضوء، باحثاً عنها في كل مكان، ولاسيما حينما تصاب المجتمعات بمحنة السقوط الحضاري.
تستباح هوية الابداع وتضيع مثلما تستباح الاوطان وتضيع هويتها الحضارية بين ركام الدمار الاجتماعي والفوضى الفكرية والصراعات الصغيرة التافهة من اجل المكاسب المادية بين الافراد والفئات الاجتماعية المتباينة الميول والاهواء.
ليست كثرة الندوات والمؤتمرات والمهرجانات دليل حركة ثقافية هادفة بقدر ما هي استعراض ثقافي تكثر مظاهره في المجتمعات المقهورة كمتنفس للناس يعبرون من خلاله بشكل غير مباشر عن قلقهم واضطرابهم الفكري.
فالابداع مسكون بهاجس العطاء المتميز اكثر مما هو مسكون بحمى الاستعراض ولا ادري كيف يبيع انسان لنفسه ادعاءه وهو لا يملك اداته الاولى اللغة، وكيف يدعي شاعر الشعر وهو لم يحفظ بيتاً واحداً لشاعر من شعراء تراثنا العظيم.
لقد كان معظم شعرائنا الكبار وكتابنا وراقين صقلوا موهبتهم بالجهد المتواصل وبالاطلاع وتعلموا من مجتمعاتهم اكثر مما تعالوا عليها فخلدهم الناس في وجدانهم وافسحوا لهم مكانة عظيمة في تاريخهم.
لعلنا بحاجة ماسة الى ان نكون مؤدبين قبل ان نكون ادباء، ونترفع عن الصراعات الصغيرة التافهة من اجل الوصول الى دائرة ضوء اوسع من الآخرين، فالابداع والثقافة قدرة على التغيير والتطوير.
ولعل مثقفي هذا المجتمع المتهم بأن معظم افراده شعراء وكتّاب، مسؤولون عما وصل اليه من انحطاط ودمار.. لرغبتهم في البحث عن دوائر الضوء اكثر من بحثهم عن منابع النور، وهم ما زالوا يحملون روح عمرو بن كلثوم.
اذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
وكثير من كبار مثقفينا لا يزال يحمل هذه الروح الجاهلية بين جنبيه، والعنجهية الجاهلية تكبر الاوطان بمبدعيها وعلمائها وتصغر بكثرة مدعي الثقافة والعلم، ترى اي حجم تحتل اوطاننا في ساحات العالم الفكرية والثقافية؟
 [email protected]