19 ديسمبر، 2024 12:56 ص

مِدادٌ في عباب 34- 38

مِدادٌ في عباب 34- 38

-34-

رغم كل الموبقات التي اقترفت كل هذا الخراب بحق هذه الامة وما تركته من مخازي.. يخيل للبعض انه وصل الى مفاصلها وافقدها القدرة على اعادة ترتيب ثوابتها، وايقاف الانهيار الذي اجتاح الكثير من معاقلها، بسبب الخيانات الكثيرة التي ارتكبتها مجموعات اخترقها العدو وسخرها لتنفيذ مخططاته الاستراتيجية للحفاظ على مصالحه بعد ان انسحب بجيوشه شكلاً وبقي تأثيره فعلاً، بفضل تلك الادوات التي ارتبطت به وقامت بدوره، ومارست مهماته في مرافق حياتنا المختلفة، فأن الامل بالله، اقوى من كل ما يطفو على السطح من مظاهر الضعف والهزيمة، وان كان الخراب يبدو اكثر وضوحاً في المرافق السياسية والاقتصادية، لكنه يكون أشد فتكاً وخطراً على الامة عندما يستطيع تلويث دمائها ويتسلل الى نسغ الحياة فيها من خلال اختراقه لفكرها وثقافتها.
ومحاولاته في هذا الميدان ووسائله من الكثرة والخبث، لا تحصى، وقد استطاع بالفعل ان يكون له موضع قدم في عقول البعض ولا اكون مجانباً للصواب ان قلت انه نجح في ايجاد ادوات له تقوم بدور الطابور الخامس لتنفيذ اغراضه في عملية الغزو الثقافي الذي احدث عملية تشويه واسعة في حياتنا الفكرية والثقافية، تبدو في هذا التسطيح الذي تعالج فيه قضايا الفكر والسياسة حتى اختلطت الامور على الكثيرين، وعاشوا في تناقضات عجيبة انعكست على تصورهم للامور وسلوكياتهم التي تصطدم مع بديهيات الكرامة القومية والاستقلال السياسي والفكري. ولكن قراءة السنن ومراقبة حركة التاريخ، تؤكد ان جرثومة الخبث مهما اوتيت من القدرة على التخريب الا انها في النهاية لا تقوى على الصمود ان جابهتها اشعة الشمس فترتد على اهلها لتقتلهم وتدفن نفسها بكل مكارهها في تلك الرمم التي افسدتها، ومهما تكاتفت الغيوم وتراكمت فانها لن تستطيع الصمود في وجه حرارة الشمس على امتداد تعاقب الايام..
فرغم برودة الصقيع الغربي التي جمدت الدماء في عروق حياتنا الفكرية والثقافية، فأن هذه الامة لم تعدم على امتداد العصور من القدرات التي استطاعت ان تصمد في وجه الاعاصير، وترد التحديات وتدحض الاكاذيب والافتراءات بكل ما اوتيت من مكر الطاغوت وقدراته.
-35-
السباق لاستنزاف الامكانات والطاقات العربية يكاد لا يتوقف، وهو مستمر منذ مؤتمر يالطا. فقد كان لذلك المؤتمر نتائج سياسية وعسكرية حاسمة تمثلت في فتح خطوط للتدخل في شؤون المنطقة واستنزافها والعبث في جغرافيتها.
واليوم، وعلى الرغم من مرور ما يزيد على سبعين عاماً، لا تزال اللعبة مستمرة وكأننا امام رقعة شطرنج تتحرك احجارها بصورة آلية دون ان يكون للمعنيين والمتأثرين بهذه اللعبة أية قوة حيوية تسمح لهم بالافلات او الخروج من الدائرة.
انهم ينظرون للمنطقة العربية وكأنها خطوط ربط ووصل بين موانئهم ومصانعهم، فهم لا يريدونها ان تستقر، ويضغطون عليها باستمرار لتطلق ما بداخلها من امكانات وثروات بشرية ومادية، على امل توظيفها في مواجهات وحروب ساخنة اقليمية..
هذا ما حدث في فلسطين والحروب التي تلت تلك الكارثة القومية، وهو ما حدث في لبنان ويحدث في جنوب السودان والصحراء الغربية واليمن والصومال وليبيا.. وما حدث ويحدث لعراقنا على مدى سنوات العقدين الاخيرين من عدوانات متتالية ودسائس ومؤامرات ليس لها آخر..
لقد كان لدفع العرب ووضعهم في آتون الكوارث الخارجية.. ثمن كبير دفعوا فيه ارضهم واستقرارهم وامنهم.. ما لا يمكن تحمله او السكوت عليه، فيما الثمن الذي ترتب على الآخرين دفعه من خارج المنطقة، كان رخيصاً وتافهاً.
ان الاهداف البعيدة والقريبة للقوى الكبرى، تتمثل في تطويع المنطقة العربية واستنزافها ووضعها في خدمة تلك القوى ومصالحها.. ولذلك كان من الطبيعي ان يتم تقاسم الادوار وعلى دورات زمنية متتالية بين الكيان الاسرائيلي في لبنان وسوريا، وايران في الجزر العربية، واليمن، والعراق، وتركيا في شمال العراق…
وقد رأينا صوراً وانماطاً للتعاون المشترك بين اسرائيل وتركيا وايران من خلال صفقات السلاح والاتفاقيات الامنية والعسكرية الثنائية والمشتركة وغيرها…
ومن ذلك يتضح، انه لم يعد هناك ما يمكن اخفاؤه او التستر عليه، فاسرائيل وتركيا وبشكل او بآخر ايران، متفقون على ضرب العرب والتوسع في مناطقهم وقضم اجزاء من اراضيهم، وقد سهل عليهم ذلك ادمان العرب على الخلافات والمنازعات فيما بينهم، وانهماكهم في التصرف الخاطئ في كل ما يتصل بفهم طبيعة اعدائهم وكيفية التعامل مع هؤلاء الاعداء بمنطقهم واسلوبهم.
ولم تعد العدوانات الامريكية المتتالية على العراق تقتصر على استنزاف طاقاته بل تعدته الى اقطار عربية اخرى، وانما تعدتها لتستنزف امكانات الامة كلها، مما يترتب عليهم مواقف تخدم الشركاء وتساعد على اندفاع قوى غربية تخريبية قد لا يكون في الوسع تجاهل اهدافها وغاياتها.
-36-
الله، نور السموات والارض، والذين يعلمون من عالم النور. والعلم منوط باستعمال العقل، فاستعمال العقل لاقتناء العلم والمعرفة، بعض من الانتماء الى عالم النور. وهكذا فاستعمال العقل للوصول الى الحقيقة، واستعمالها بما يرضي الله، بعض من العبادة.
وان اقتناء الحقيقة، بعض من خبرة الانسان، وهذه الامكانية مرتبطة بعامل الزمن، قيد عمر الانسان. والانسان اذا ما اقتنى خبرة الاخرين، عبر صحبة كتاب، واستيعاب حقائقه خلال اسبوع من الزمن مثلاً، يستحوذ في كيانه عمر الكاتب الذي استغرقه لمعرفة حقائق الكتاب الذي وضعه عشر او عشرين سنة مثلاً.
وعبر صحبة الكتب، يمكن للانسان ان ينتصر على الزمن فيزيد في عمر وعيه العقلي سنين كثيرة. ومن الناس من يموت وعمر وعيه العقلي بضع سنوات وان عاش مئة عام، ومنهم من يموت وعمره العقلي الف عام، حصاد صحبة ( كذا ) كتاب وكتاب.
وان الانسان اذا ما تناول كتاباً يمت الى حضارة ما، فاستوعبه، يعيش هذه الحضارة في اعماقها، فكأنه فيها ومنها، وان كانت قبل الميلاد، وهكذا بالكتاب، وعبر الوعي العقلي، ينتصر الانسان على قيد الزمان والمكان.
الحضارة العربية الاسلامية، زكت المعرفة والعلم على اساس الوعي العقلي، والرسول الكريم كان يطلق الاسير اذا ما علم عشرة مسلمين القراءة والكتابة، وعنه اثرت هذه الاحاديث الرائعة التي وردت بما معناه..
* اطلب العلم من المهد الى اللحد.
* اطلب العلم ولو في الصين، فان طلب العلم فريضة على كل مسلم.
* يوزن يوم القيامة دم الشهداء ومداد العلماء فيغلب مداد العلماء دم الشهداء.
* يبقى الرجل عالماً ما طلب العلم، فاذا ظن انه علم فقد جهل.
* فضل العلم خير من فضل العبادة.
* مجالسة العلماء عبادة.
* ليس الحسد من خلق المؤمن الا في طلب العلم.
* من سافر في طلب العلم كان مجاهداً في سبيل الله ومن مات وهو مسافر في طلب العلم مات شهيداً.
* من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً الى الجنة.
* ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضا بما صنع.
مما سبق نعي مكانة العلم في الثقافة العربية الاسلامية، وصلة ذلك بالتقرب من الله عز وجل، ونعي ايضاً قيمة الكتاب كمخزون للعلم والمعرفة في هذا المضمار. وهكذا يمكننا الحكم على انفسنا، اذا ما نظرنا في بيوتنا ووجدنا احسن الاثاث، وافخر الرياش، واطيب الطعام، وألذ الشراب… ثم لا نجد الكتاب، فاذا وجدنا الكتاب لا نجد المكتبة، واذا وجدنا المكتبة لا نجد القواميس، فاذا وجدنا واحداً، يكون جديداً لم تمسه يد منذ دخل الخزانة.
“قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”
نحن نعلم ان حضارتنا العربية والاسلامية مؤهلة انسانياً لتكون البديل للحضارة المادية المريضة، من الناحية المعنوية، واما من الناحية العملية ، علينا ان نبدأ بانفسنا، وحضارتنا الرائعة كفيلة بالباقي.
-37-
ربما تكون الكلمة –سواء المنطوقة او المكتوبة- اهم شيء في حياة الانسان لأسباب لا يمكن حصرها في سطور، لكن يمكن ايجاز بعضها:
1- الكلمة هي واسطة التعامل الاجتماعي في جميع مستوياته، وكذا، الثقافي والتجاري.
2- هي الناقل الحي للعواطف والمشاعر والافكار الانسانية بكل صورها من حب وبغض وغضب وفرح..
3- هي المؤثر الحي على كل العواطف والمشاعر والافكار الانسانية بكل صورها.
والكلمة ليست مجرد مجموعة حروف جرداء او رسوم فارغة المحتوى، ولكنها شكل ومضمون وأسلوب
أ- فالشكل، هو الذي يميز كلمة عن اخرى، وهو كذلك، الذي يعطي الجرس الموسيقي للكلمة (الكلام المستعمل في الغزل يختلف في جرسه الموسيقي عن كلام الحرب..)
ب- المضمون، هو ما يعطيه الشكل من مدلولات وايحاءات بعضها ظاهر وبعضها خفي. وهو ايضاً معنى الكلمة (سواء القريب المباشر او البعيد غير المباشر) المقصود منها. ومن خلف المعنى تبرز الصورة التي اريد للكلمة ان ترسمها.
ج- الاسلوب، وهو موقع الكلمة من الجملة المنطوقة او المكتوبة بحيث يضفي عليها اما المعنى الاصلي الذي وجدت لأجله او معنى آخر في نفس صاحبه. والاسلوب ايضاً الطريقة التي تلفظ بها الكلمة. ثم هو الظروف والملابسات الاخرى التي تحيط بالكلمة.
لذا، فان الشكل والمضمون والاسلوب هي التي تعطي الكلمة اهميتها وتأثيرها في النفس –ايجابياً او سلبياً- واذا فصلنا أحد هذه العوامل او اسقطناه لا نستطيع عندئذ ان ندعي بأن الكلمة استوفت شروطها.
وربما يتظافر الشكل والمضمون في كلمة ما فتعطي المعنى الظاهري لها، لكن الاسلوب الذي قيلت او كتبت به يمكن ان يغير معناها كلية او على الاقل يمكن ان يوحي بمدلول آخر يفهمه من يعرف مسؤولية الكلمة، اما اذا كان صاحبها لا يعني هذا ولا ذاك تسقط الكلمة في هذه الحالة من الحساب وتندرج تحت باب اللفظ الذي لا قيمة حقيقية له.
ونتيجة لعدم معرفة الكثيرين من الناس للعوامل الآنفة الذكر التي تتميز بها الكلمة نجد انهم اما ان يحذفوا عاملا من هذه العوامل مما يؤدي الى تشويه الكلمة او انهم لا يعرفون قيمتها الحقيقية فيلقون بها غير عائبين –عن جهل او غير جهل- بالمسؤولية الكبيرة للكلمة والواجب ان تتوفر عند كل انسان عاقل له رأي. ولذا فالدقة في التعبير هي اهم الصفات التي يمكن ان يتمتع بها انسان.
والغريب اننا نجد كثيراً من الكتّاب والادباء.. عن قصد او غير قصد.. احد هذه العوامل فيهتمون مثلاً بالشكل او بالشكل والمضمون فقط، مع ان عماد الكتابة والادب.. هو الكلمة بكل جوانبها. ونستطيع ان نميز الممثل المسرحي الناجح من غيره بالطريقة التي يتعامل بها مع الكلمة. وهم اجدر الناس بمعرفة عمق وتأثير
الكلمة في الحياة الانسانية، وكذلك يمكن ان نعرف مدى رقي فكر أمة من الامم بالطريقة التي يعاملون بها الكلمة.
ومن الجدير بالذكر، في هذا المجال، ان نورد بأن الكتب الدينية، السماوية منها وغير السماوية، تعامل الكلمة على انها شيء مقدس، فنرى سفر التكوين في التوراة يبتدئ –في البدء كانت الكلمة- ونرى ان جوهر الفلسفة البرهمية هي كلمة –أوم- ثم في القرآن نجد هذه الآية –مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين.. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار-.
وفي سورة اخرى نجد جزءاً من آية- .. كبرت كلمة تخرج من افواههم-.
-38-
لا تفتش عنه، لن تجده بهذه البساطة التي تتصور. انه امامك والى جانبك، يسير معك في كل مكان، لكنك لن تراه، لأنه يحرص كل الحرص على الا ينكشف امره او يبين سره. انه ليس هناك وراء الاسلاك الشائكة والجدران السوداء السميكة.
لا تنصت، انه لا يئن ولا يتألم. لقد اعتاد جلداً يلازمه الى ما شاء الله.. لا تعجب، انه انا، انت، هو، هي، انه الانسان الحقيقي الذي يسكن دواخلنا وقد صمت. عُصبت عيناه وكُم فاه، وشر الدواب عند الله الصم والبكم والعمي.
ابتنى الانسان لذاته (غيتو) وأودعها هناك، يحرسها، يخاف عليها ومنها.. سجين وسجان، وجهان لعملة واحدة لا يتقابلان.
أُنظره المسكين وقد ارهق نفسه وانهك عقله وشيد لنفسه القلاع والحصون المنيعة، وامتلك من وسائل الدمار والخراب ما لم يخطر على بال. ليكونا بالتالي مجتمعاً لا يسوده استقرار او هدوء او طمأنينة، وقد قاد زمامه رجال السياسة والمنتفعون منها والدائرون في افلاكها طوعاً او كرهاً.. عالم غريب.. لا حد يفصل بين الاشياء ومفاهيمها، ولا حدود لأي اعتبارات او قيم او موازين علا شأنها او قلّ.. بل ان لكل حادث حديث، ولكل زمان دولة ورجالاتها وساساتها.. وانت ايها الساذج المسكين ضحية كل تلك التناقضات.. تئن فلا تسمع، وتتذمر فلا تبين.. تهز رأسك طاعة وقد احنت ظهرك السياط قبل السنين وفتكت بك الامراض وانت ما زلت ذلك الساذج المسكين يزداد انحناء حتى يساوى والارض.. وجوفها له افضل من ظهرها وقد يستره مما هو فيه من ذل وهوان.
ارتفع وارتقى حتى كاد رأسه ان يرتطم بعنان السماء، ووضع الكون ومقداراته وثرواته تحت يديه يتصرف بهما كيفما يشاء.
طالت يداه كل شيء لكنه عجز عن ادراك ذاته الحقيقية او فهمها.. انه ضعيف رغم قوته، ذليل حقير بكبريائه وصلفه وجبروته.
تؤلمه، وبيديه ما يدمر الحضارة التي ابتناها وأسسها عبر القرون في لحظات. يأرق وتعجز كل العقاقير المهدئة ان تزيل شبح الخوف من دماغه او صور المذابح واشباح ضحاياه من مخيلته.
والحياة حين ننظرها تبدو عجيبة، مليئة بالمتناقضات، الانسان فيها بين سجين وسجان.. سائس ومسوس.. يحرص كل منها على الآخر لأن وجوده من وجوده، ولا حياة له ألا بحياته.
[email protected]