قال الشاعر : لم يأتِ في النصِّ حرامٌ والقصدُ منهُ الأباحة .. .
من القواعد الأساسية الكليَّة التي يعتمدها الفقهاء في الحلال والحرام أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يَرد فيها حرمة ! أي الأصل أن كل شيء مباح ، بما معنى أن أي قضية سكت عنها الدين إذاً تعتبر هي مباحة ، لأن أصل القاعدة أن كل شيء مباح ما لم يرد في تحريمه نص صحيح وصريح ، فلو اعتمدنا على نص غير صحيح .. فيبقى هذا الشيء على أصل القاعدة مباحاً ، ولو اعتمدنا على نص صحيح لكن دلالته ليست قطعية ! يرجع الحكم إلى أن هذا الشيء مباح وفق القاعدة الأصلية الأولية ، فالقاعدة الأولى في الحلال والحرام أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح صريح من قبل الله عز وجل في كتابه الكريم ، أو من النبي – صلى الله عليه وسلم – في سنته ، لذلك موضوع الحلال والحرام لا يستطيع إنسان كائن من كان أن يقول لك هذا حلال وهذا حرام إلا بالدليل .
اذا عرفنا جيداً وفهمنا هذه القاعدة الاساسية الكلية في أباحة الأشياء … حينها يمكننا ان نميِّز بين ما هو حلال وبين ما هو حرام ، بين ما ورد فيه نص على حرمته وبين ما لم يرد فيه نص على هذه الحرمة ، فمابالك بما قامَ الدليل على حليته او جوازه واستحبابه ؟
في كل سنة قبل وفي شهر عاشوراء يعاد الجدل من قِبل بعض الناس وخاصة مدعي ” الثقافة ” حول الشعائر الحسينية ! ومنها قضية التطبير والزنجيل واللطم والضرب على الوجه والصدر حُزناً وجزعاً على الامام الحسين – عليه الصلاة والسلام – وأنها بدعة مُخترعة أو هي طقوس اليهودية والنصرانية تم تصديرها أو أستيرادها الى الشعوب المسلمة ! ولا عجب طالما أن هناك شخصيات تُعَد من الرموز الفكرية والثقافية في الأسلام امثال علي شريعتي ومن تأثر به .. فضلاً عن بعض القنوات الاعلامية من روَّجَ ولازال يُروج لهذا الأمر .
يعترض هؤلاء مدعو الثقافة والتطور والانفتاح على هذه الشعائر والطقوس والأساليب والممارسات الحسينية التي يصل بعضها الى نزف الدم ويعتبرونها ظاهرة مؤلمة ومقرفة وغير حضارية وأنها ليست من الشعائر الأسلامية في شيء .
ولسنا نعلم هل يكمن اعتراضهم على هذه الشعيرة بما هي شعيرة أم اعتراضهم على اساليبها .. ام اعتراضهم عليها على اعتبار أنها بدعة مستوردة من المسيحية او اليهودية والامم الاخرى كما في الادعاء ؟ .
فهل عَلِمَ هؤلاء قبل هذا الفارق في المقارنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للبدعة ؟ .
فالمعنى اللغوي أعمّ من المعنى الشرعي ، فالعلاقة بينهما العموم والخصوص المطلق ، إذ كل بدعة في الشرع يطلق عليها لغة أنها ” بدعة ” ، وليس كل ما يطلق عليه في اللغة أنه بدعةٌ يعتبر بدعةً في الشرع .
والبدعة في الشرع ملازمة لصفة الضلالة ، للحديث الوارد : ( كل بدعة ضلالة ) ، وأما البدعة بمعناها اللغوي فليست كلها ملازمة لوصف الضلالة .
فهل هناك ما ترتبَ عن هذه الشعيرة ومن أساليبها بما يندرج في أطار الضلالة والأحداث في الدين ؟
هذا هو التساؤل البسيط الذي كان أجدر بهؤلاء الناس البحث عن اجوبته !
وإذا كان الاعتراض والفهم يقوم على أنها ظاهرة مستوردة ! وأنها ليست من الاسلام في شيء ! فالاولى قبل هذا ان يقوم الدليل ويثبت على أستيرادها … فهل نعتبر صُدفيَّة وجود نفس السلوكيات والأساليب عند باقي الامم والحضارات الأخرى ! بالضرورة أننا إقتبسناها منهم ؟
يُعَزي البعض ويظن الى ان أصل نشوء هذه الظاهرة التطبير والضرب بالسلاسل :
بأنها عادةٌ مسيحية في المقام الأول ، بدأت في القرن الثالث عشر والرابع عشر ، وكانت طقساً دينياً أدين فيما بعد باعتباره وثنياً ، وكان الطقس يتم علنيّاً أمام الجمهور ، والعادة لم تكن غريبة على كثير من الديانات ، وليس للتطبير أي سابقة في عصر الامام عليه السلام ومن والاه ، السابقة للمسيحية ، مثل طقس آيزيس في مصر وديونيس في اليونان.
وكذلك مارس اليهود جلد الذات بالسوط خلال الاحتفالات الدينية الكبرى ، في بادىء الأمر ، وكان جلد الذات نوعا من – التّوبة – في الكنيسة المسيحية ، والى جانب الجلد كانت المواكب تتضمن أناشيد دينيّة وحركات وأزياء معينة .
أوّل سابقة في القرون الوسطى كانت تلك التي حدثت في بيروجيا عام ١٢٥٩. وانتشرت منها الى شمال ايطاليا ثم النمسا ، وسُجلت حوادث أخرى في وقت انتشار الطاعون – الموت الاسود – عام ١٣٤٩ و ١٣٩٩ ، وقد انتشرت مواكب الجلد مثل هوس شعبي خلال المدينة كلها ، فقد خرج الألاف من الناس في مواكب منشدين الأغاني الدينية وحاملين الصلبان والرايات .
مرت العصور والازمنة وانتقل هذا الطقس من بلد الى آخر ومن شعب الى آخر الى أن وصل الى عقول الشيعة في مختلف بلدانهم ، منهم من يعتبر أن نشأة هذا التقليد عند المذهب الشيعي كان في ايران ، والبعض الآخر يقول أنّ الاتراك هم أول من أطلق هذه المواكب .. .
يتبادر الى ذهن الأنسان العاقل المنصف الأسئلة التالية مع إفتراض صحة هذا الاقوال والمعلومات ..
أولا : لماذا عمِلَت هذه الأمم بهذه الطقوس .. ولماذا عَمَدَت الى جَلد ذاتها .. أليس المُتبادر الى الذهن هو الحزن والجزع والمواسات والتألم على أسباب وأحداث معينة قد وقعت وحصلت معهم ؟ .
ثانياً : مالذي يُثبِت أن هذه الشعائر وهذه الطقوس الحسينية أصلها مسيحي أو يهودي ؟ .
ثالثاً : لماذا لاتكون المسيحية واليهودية هي من أخَذَت عن المسلمين هذه الشعائر وهذه الطقوس مع علمنا ومعرفتنا المُسبقة أن أهل الأسلام هم أهل هذه المصيبة الأصليين ” مصيبة أستشهاد الحسين ” والتي وقعت في ديارهم ؟ !! .
كما يحتج هؤلاء في عدم ورود نصوص صريحة – رغم وجود هذه النصوص عن الأئمة المعصومين عليهم السلام – بإظهار الحزن والبكاء والجزع على الأمام الحسين – عليه السلام – بإقامة هذه الطقوس الشعائرية واحداث زامنوها … – كذلك نحن نحتج عليهم بعدم وجود نصوص تأريخية ثابتة تؤكد أن هذه الطقوس والشعائر أصلها – المسيحية اواليهودية – وأن الشيعة قد أخذتها عنهم !! .
وماذا يقول المسلمون او يفعلوا حزناً وجزعاً وتألماً على الحسين – عليه الصلاة والسلام – إذا كان الأمام الرضا – عليه الصلاة والسلام – نفسه يقول : إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء ، إلى يوم الانقضاء ! .
فالينتبه الناس والينتبه هؤلاء الى أنفسهم وما يعتقدون في ثقافتهم وتطورهم وانفتاحهم أزاء الحسين وقضية الحسين – عليه السلام – فالامام الرضا عليه السلام – يقول : يوم الحسين أقرح جفوننا .. ، إذا كان إمام معصوم مفترض الطاعة قد أقرح يوم الحسين جفونه ! فماذا يمكنكم ان تقدموا أنتم ؟ .
لابأس أن يتسائل الأنسان ويبحث عن دينه وكل ما يرافق حياته من سلوكيات وممارسات اجتماعية يظنها غريبة او دخيلة على ما يعتقد .. شريطة ان لايتأثر بكل ما يُطرح في الساحة من افكار لمجرد أنها تتوافق مع ثقافته ! كذلك هو ليس ملزم الاعتقاد بهذه السلوكيات والممارسات ولا بهذه الأفكار طالما هي لم تخرج عن حيزات الاستحباب والتخيير بكل الاحوال .
وإلا أصبحتم حاضنة سهلة بقناع الثقافة لترويج هذه الافكار الدخيلة الاكثر غرابة على دينكم وحياتكم وثقافتكم من الشعائر والطقوس الحسينية ، سواء شعرتم بها او لم تشعروا .