” مَكر التاريخ ” عبارة ابتدعها الفيلسوف الألماني هيغل في معرض دراسته لفلسفة التاريخ من منطلق مثالي, حيث ارتبط التاريخ عنده, ارتباطاً وثيقاً بالروح, واعتبر الروح نفسها هي التاريخ.
لا أنوي الخوض في محيط الفلسفة المحتدم ولا سبر كوامنه المتنوعة المتناقضة بل هي مجرد ضربة كف في لجّة عابرة, تبعاً لما تحيق ببلادنا من أنواء وعواصف.
” مَكر التاريخ “, باختصار, أراد به أن العظماء وهم يصنعون التاريخ, يتوهمون ذلك, فهم لا يفعلون ذلك بمحض إرادتهم ونتيجة رغباتهم الشخصية. بل بتأثير مصدر أسمى منهم ( الروح ), استخدمهم لكي يحقق غايته الكلية في سيرورته ( التاريخ ) نحو المطلق.
وقد ردد هيغل باستمرار عبارة ” مكر التاريخ ” لأنه عاصر وعارض غزوات نابليون بونابرت في أوروبا والدمار الذي خلفته حروبه, ربما لأنه وجد في اندفاعه في تحقيق أهدافه دحضاً لنظريته.
نتساءل على ضوء ما سلف, أليس تجريد هيغل الأفراد والعظماء منهم من الارادة الحرة في صنع التاريخ وإحالته ” مكر التاريخ ” إلى الروح, يعني عدم تحميل المستبدين على مر التاريخ مسؤولية الجرائم والفظائع التي ارتكبوها واسقاطها عن كاهلهم وتبرئتهم منها ؟!!
تخريجة هيغل هذه ستجعل طغاة التاريخ ومجرميه منذ فجر التاريخ مروراً بجنكيز خان ثم هتلر وستالين حتى صدام حسين ومن جاؤوا بعده مع المحتل الامريكي وأبو مصعب الزرقاوي ودواعش دولة الخلافة, وقتلة شباب انتفاضة تشرين… مرحبين يرقصون لها اصبعتين !
زميله في الهمّ في معالجة فلسفة التاريخ, كارل ماركس الذي تبنى ديالكتيكه ونبذ مثاليته, والذي وضع نظرية ” المفهوم المادي للتاريخ ” قال بأن الصراع الاجتماعي الطبقي هو المحرك للتاريخ وان الإنسان الفاعل في عملية الإنتاج الاجتماعي والعلاقات الناشئة عنها, هو الذي يصنع التاريخ.
لكن حتى التنظيرات الحداثية المتعددة التي نشأت بعد مادية ماركس وانجلس التاريخية, تقف عاجزة عن إيجاد تفسير مقنع لعبارة هيغل ” مَكر التاريخ ” بطبعتها العراقية. بعد ان اتخذت التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا شكلاً غرائبياً مشوهاً بسبب أن الفئات المهيمنة لا تمتلك وسائل إنتاج من مصانع ومصالح وليس لها ملامح رأسمالية, لأنها مجرد تشكيلات صيرفية وتجار عقارات ومزورين وسماسرة بورصة ومهربين… لا يمكن وصفها بطبقة لعدم توفرها على خصائصها, ولا نحن إزاء قوى إنتاج حقيقية من عمال وفلاحين بعد التخريب المنظم لقطاعات الاقتصاد العراقي نتيجة حروب داخلية وخارجية متواصلة وصراعات عبثية, ولكن رغم ذلك فإن الصراع الاجتماعي لدينا محتدم بين أوليغارشية ملامحها الطبقية مشوهة, بسمات فاشية, وبين عموم باحث عن تأمين متطلبات حياته المعيشية بوسائل المانيفاكتورة, البيع المفرد من تجار جملة مقربين من الأوليغارشية التي تبتزهم بدورها رغم التخادمية في العلاقات بينها, وكذلك أعداد غفيرة من جيوش العاطلين عن العمل, في ظل تهميش قسري لدور المشاريع الإنتاجية في مجالات الصناعة والزراعة للقطاع العام والخاص ومحاربة الاستثمار الأجنبي, بل حتى في مجال الصناعات النفطية التي هي أبرز مظهر للنشاط الاقتصادي في البلاد, مكبلة باتفاقيات وصفقات استرقاقية, أعطت الشركات الأجنبية دوراً مهيمناً في التعدين والانتاج, بحضور مكثف للعمالة الأجنبية, واستبعاد للطاقات والخبرات الوطنية في هذا المجال الحيوي.
“مَكر التاريخ ” مجرداً من الاسقاطات الفلسفية بل بتجريد لفظي, كان على العراقيين شديداً على مر العصور, خصوصاً بعد ان اكتسب صراع القوى, اليوم, بعداً جديداً, فهو اليوم لم يعد صراعاً على حكم ومصالح فقط, بل اقترن ايضاً بنزعة متغولة للرجوع بالبلاد إلى الظلامية والتخلف والتقسيم لخاطر عيون دول خارجية تدفع بها قوى الإسلام السياسي بالخصوص, وترحب بها أطراف التعصب القومي, بيد ان عموم العراقيين يعارضها.
وبينما صاغ هيغل عبارته ” مَكر التاريخ ” فإن ماركس أظهر تناقض تمثلات هذا التاريخ عندما قال: ” إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين, مرة على شكل مأساة, ومرة على شكل مهزلة “.
ما أفضعها من مهزلة مُوجعة !