يعد اختيار موضوع جيد وجديد لكتابة بحث او كتاب او رسالة علمية ، غنيمة او مكسب، ولكن النجاح في كتابة ذلك الموضوع مصادراً وتبويباً ومنهجاً علمياً تاريخياً وتحليليا… هو الغنيمة الأكبر، اذ كثيراً ما استهلكت عناوين ومواضيع بل اجهز عليها بسبب سوء او ضعف الباحث او المشرف او كليهما او عدم حرص وجدية المشرف او عدم معرفته بالموضوع او افتقار الدراسة للموضوعية والمصادر الاساسية او انعدام القدرة على التحليل والربط العلمي للاحداث.
من هنا، عد دراسة الشخصيات من الدراسات التاريخية المهمة لما لها اثر فاعل وكبير في كشف العديد من الخفايا والحقائق التاريخية ووضع الشخصية ومسارها في المجال العلمي الصحيح. الا ان ما يؤخذ على مثل تلك الدراسات ولا سيما في التاريخ الحديث والمعاصر، اقتصارها على دراسة شخصيات تولت مناصب سياسية مهمة كالملوك او رؤساء الوزارات او الوزراء ممن كان لهم اثر اساسي في الحكم، في حين ان هناك شخصيات اخرى لم تتسلم منصباً سياسياً كبيراً لكن لها اثرها الفعال ومواقفها الوطنية الثابتة سواء كان ذلك في الثقافة والاقتصاد ام في مجالات اخرى. لذا فان هنالك حاجة تستوجب الدراسة والاهتمام بتلك الشخصيات.
لقد حظي تاريخ اليهود في العراق باهتمام واسع من المؤرخين والاكاديميين العراقيين والعرب والاجانب.. اذ صدرت العديد من الرسائل الجامعية والمؤلفات والدراسات والبحوث من وجهات نظر عدة ناقشت جوانب مختلفة من حياة الطائفة اليهودية في العراق ولا سيما في اثناء العهد الملكي 1921-1958، الا ان أياً من هذه الدراسات لم تسلط الضوء على الشخصيات اليهودية العراقية التي كان لها اثر في احداث العراق المعاصر.. لدواع عدة… في مقدمتها، الخشية والحذر في تناول هذه الشخصيات ونمطية النظرة الى اليهود، وعدهم في الاحوال جميعها صهاينة لم يتعد دورهم الجوانب السلبية في المجتمعات التي عاشوا فيها، لذلك يهدف هذا الكتاب الى كشف النقاب عن شخصية يهودية عراقية تمثل الجيل القديم من اليهود ممن عاصروا العهدين الملكي والجمهوري، الا وهي شخصية مير بصري، رئيس الطائفة الموسوية في العراق في اثناء المدة 1971- 1974.
كان مير بصري، شخصية غير نمطية، فلم تكن اهتماماته منصرفة الى الادب واللغة فحسب بل كان مؤرخاً وباحثاً اقتصادياً وكاتباً بليغ العبارة ومترجماً دقيقاً من اللغات الحية التي كان يجيدها، وهي العبرية والانكليزية والفرنسية، فضلاً عن ما قدمه من انجازات في اثناء عمله الاداري والاقتصادي.
لقد استطاعت الباحثة معرفة مقدار تأثير العوامل الداخلية والخارجية في علاقة مير بصري بوطنه العراق ومقدار تقبله ورفضه الافكار الصهيونية التي حاولت الصهيونية العالمية ترسيخها في المجتمعات اليهودية في العالم، وقد استطاع مير بصري ــــــ حسب استنتاج الباحثة ـــــ المزاوجة بين هويته العراقية وديانته اليهودية، وتفاعله مع الاحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية في العراق؟
تضمن الكتاب، مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، تضمنت الاستنتاجات العامة التي توصلت اليها الباحثة من اجل تقويم شخصية مير بصري. فقد كرس الفصل الاول لدراسة حياته المبكرة، ولادته، ونشأته، واسرته، ومراحل دراسته، ومنابع تكوينه الفكري، وثقافته.. فضلاً عن الملامح الاساسية لشخصيته، وبما انه احد ابناء الطائفة اليهودية، تم تسلمه منصب رئيس الطائفة الموسوية في العراق في اثناء المدة 1971- 1974. وقد تطرق الفصل الى الحديث عن احوال تلك الطائفة، وينتهي الفصل ببيان اسباب سفره الى لندن عام 1974، واستقراره فيها حتى وفاته.
كانت بداية الطريق الى تحقيق الاستقلال السياسي في العراق، قد بدأت بتأسيس الحكومة العراقية المؤقتة، ثم العهد الملكي الذي كان يؤلف على الرغم من جميع سلبياته في ظل الانتداب، ثم النفوذ البريطاني، خطوة تاريخية مهمة افضت الى ظهور مؤسسات تشريعية وتنفيذية، ثم العهد الجمهوري وما رافقه من تغييرات جذرية.. وقد قدر لـ ميري بصري ان يكون له موقعه في تلك المؤسسات بحكم مكانته الاجتماعية واثره الفكري والاقتصادي فضلاً عن علاقاته مع بعض الشخصيات السياسية والادبية المهمة.
هذا ما استعرضه الفصل الثاني متناولا بواكير عمل بصري الاداري ونشاطه الاقتصادي في اثناء المدة المحصورة بين عامي 1928- 1945، من حيث تدرجه في وظائف الدولة، ثم تناوله نشاطه الاداري والاقتصادي في اثناء المدة المحصورة بين عامي 1945-1974.
اما القسم الآخر من الفصل فقد تكرس للاحاطة بمواقفه تجاه بعض الاحداث الوطنية والقومية البارزة، مثل مواقفه من احداث الفرهود عام 1941، واعلان قيام الكيان الصهيوني في عام 1948، وما رافق ذلك من دعاية صهيونية عالمية في الخارج ضد العراق. وموقفه من قضية شفيق عدس وما لحق بها من تأثيرات مهمة في موقف ابناء الطائفة اليهودية. وقانون اسقاط الجنسية العراقية عام 1950، وما لهذا القانون من اثر حاسم في انهاء وجود الطائفة اليهودية في العراق الا القليل الباقي منها، وقيام ثورة 14/تموز/ 1958، وما رافقها من تغيرات جذرية في الاوضاع داخل العراق، ثم تسلم عبد السلام عارف تقاليد الحكم 1963-1966، وقيام حرب الخامس من حزيران 1967، واخيراً احداث عام 1969، التي تعد اسوأ مرحلة من حياة مير بصري، نتيجة تعرضه للاعتقال بتهمة التجسس للكيان الصهيوني، اذ كان يشغل منصب رئيس اللجنة الادارية لليهود العراقيين.
اما الفصل الثالث، فتناول نتاج مير بصري الثقافي 1928-2006، عرض فيه مؤلفاته من الكتب ونتاجه من البحوث والمقالات المنشورة مع التطرق الى مشاركاته الثقافية وعلاقته مع المثقفين العراقيين. اما الجزء الاخير من الفصل، فقد خصص لما كتب عن مير بصري بعد وفاته.
ان تأليف كتاب عن مير بصري بعد خلو بغداد من ابنائها اليهود، يعد وفاءاً وتقديراً وعملاً ناضجاً يصدر من جيل عاش ثقل الدعاية المتعصبة ضد هؤلاء المواطنين الاوفياء لبغداد. ويكفي ان يكون بصري عنواناً لأطروحة اكاديمية بعد ما حصل ليهود العراق ما حصل ، اذ يعتبر ذلك مؤشراً على سلامة ذلك الجيل الذي ابتلى بعهود من الكراهية.
الكتاب بفصوله كان دراسة جادة ومحاولة لانعاش النفوس بعد خوائها لما مر على العراق من مصائب ومكائد. وقد تمكنت الباحثة من تقديم صورة واضحة عن حياة مير بصري وما يتداخل في الدراسة من حياة الطائفة اليهودية العراقية وصورة جامعة وشاملة لتراثه الفكري والادبي، فهو بحق يعد مترجم متميز لسير الشخصيات العراقية بالعراق الحديث.
ان النفوس بعد ان تهدأ ولا مناص من ذلك، سيكشف عن حقائق ترد الاعتبار لمن اتهموا بوطنيتهم زوراً، وسيظهر كم كان مير بصري وبعض قومه وطنيين، وكم اقترب من الصهيونية وخدمها، ومن سلم لاسرائيل عقولاً وسواعداً حاولت التشبث بتراب وطنها، لكن سوط التعصب كان مرفوعاً.
* الكتاب- مير بصري سيرة وتراث، تأليف- فاتن محيي محسن، ط1، دار ميزوبوتاميا، بغداد، 2010، 269 صفحة