عندما كنّا ندرس اللغة الروسية وآدابها في كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين , لم نكن نعرف مؤرخ الادب الروسي ميرسكي , بل وحتى لم نسمع باسمه أصلا ( لا نحن , الطلبة الاجانب , ولا الطلبة السوفيت ايضا , الذين كنّا ندرس معهم ), وذلك , لأن هذا ألامير ( هكذا يسمّونه, اذ انه من عائلة ارستقراطية معروفة جدا في الامبراطورية الروسية ) كان ضمن قائمة الاسماء الممنوع تداولها (وما أكثر تلك الاسماء آنذاك !) في الاتحاد السوفيتي , رغم ان ميرسكي كان عضوا في الحزب الشيوعي البريطاني , وانه عاد الى الاتحاد السوفيتي بعد الهجرة منه ( هاجرمثل معظم المثقفين الروس آنذاك عام 1920 احتجاجا على ثورة اكتوبر 1917 ), عاد لانه اصبح ماركسيا , والتقى مكسيم غوركي ( عندما كان غوركي مقيما في ايطاليا ), وان غوركي نفسه هو الذي أقنعه بضرورة العودة الى الوطن والمساهمة في بناء الاشتراكية , وقد عاد ميرسكي فعلا الى الاتحاد السوفيتي عام 1932 , وحتى التقى ستالين مرّة في بيت غوركي بموسكو , واصبح ميرسكي عضوا في اتحاد الادباء السوفيت ( الذي تأسس عام 1934 بعد انعقاد المؤتمر الاول الشهير للادباء السوفيت برعاية ستالين نفسه , حيث أصبح غوركي رئيسا لذلك الاتحاد ) , لكن كل تلك الخطوات الواضحة المعالم والصريحة جدا في مسيرته (السوفيتية!) بعد عودته الى الاتحاد السوفيتي ومساهماته الواسعة والمتنوعة في الحياة الفكرية السوفيتية , كل ذلك لم ينقذه من حملة الاعتقالات الستالينية الرهيبة , التي بدأت في نهاية الثلاثينيات, والتي أدّت ( كما هو معروف للجميع الان ) الى تصفية الملايين في الاتحاد السوفيتي , وهكذا كان الامر مع ميرسكي ( العائد الى الوطن !) , اذ تم اعتقاله عام 1938, وصدر الحكم عليه بالسجن لمدة 8 سنوات بتهمة (الاشتباه بالتجسس!!!) , ثم مات بعد سنة في معسكر الاعتقال بسيبيريا عام 1939 , وكان عمره آنذاك 49 سنة ليس الا , ولكن – وقبل الحديث عن تفاصيل اخرى حول مؤرّخ الادب الروسي ميرسكي وبصماته الابداعية في هذا المجال – لنبدأ اولا بتعريف القراء العرب به , اذ انه كان (ولايزال مع الاسف ولحد الان ) مجهولا بالنسبة لهم تقريبا .
ولد دميتري بيتروفيتش ميرسكي عام 1890 في عائلة ارستقراطية , وكان والدة جنرالا في الجيش الامبراطوري الروسي , وحتى شغل منصب وزير الداخلية في الامبراطورية الروسية ( للفترة من 1904 الى 1905 ) , واصبح ميرسكي عام 1908 طالبا في جامعة بطرسبورغ , حيث بدأ بدراسة اللغتين الصينية واليابانية في الكلية الشرقية بتلك الجامعة ( كان يتقن آنذاك اللغتين الانكليزية والفرنسية كما هو حال ابناء الارستقراطية الروسية ), وأصدر عام 1911 مجموعة شعرية تضم قصائده من ( عام 1906 الى عام 1910 ) , ولكنه ترك الجامعة عام 1911 لاستدعائه للخدمة العسكرية في الجيش الروسي , وبقي في الخدمة العسكرية لمدة سنتين وعاد الى الجامعة بعد ذلك ( اي في عام 1913 ) , لكن لدراسة علم اللغات وآدابها الكلاسيكية , وأقام علاقات مع أخماتوفا ومندلشتام وبقية شعراء مجموعة ( الذروة – الاكمايزم ) , الا ان الحرب العالمية الاولى , التي بدأت عام 1914 , اوقفت كل نشاطاته , اذ تم الاستدعاء مرة اخرى للخدمة العسكرية , وهكذا شارك في تلك الحرب , واصيب بجراح عام 1916 , فتم ارساله الى القوقاز , وحدثت ثورة اكتوبر عام 1917 , وبدأت بعدها الحرب الاهلية الروسية بين ( الحمر والبيض !) كما هو معروف في مسيرة التاريخ الروسي , وكان ميرسكي مع ( البيض ), بحكم كونه أحد افراد الجيش الامبراطوري , وهكذا اضطر ان يهاجر من روسيا عام 1920 , وبعد بولندا واليونان , وصل الى لندن عام 1921 , وبقي هناك الى عام 1932 , وفي لندن اصدر عدة كتب باللغة الانكليزية ( والتي كان يعرفها بشكل جيد جدا ويستخدمها في كتاباته ) حول الادب الروسي وتاريخه, ومنها عدة كتب ( انطولوجيا ) تضم نصوصا من الشعر الروسي , وألقى سلسلة من المحاضرات عن الادب الروسي في جامعة لندن , وحصل على درجة الماجستير ( عام 1926 ) من تلك الجامعة العريقة , وكانت اطروحته عن بوشكين , وأصبح أحد محرري مجلة انكليزية نقدية , كانت تصدر باشراف الشاعر أليوت نفسه …
بعد اعتقاله عام 1938 , ثم وفاته في معتقل سيبيريا عام 1939, تم حظر كل مؤلفاته في الاتحاد السوفيتي , وتم منع اسمه من التداول في الاوساط الادبية السوفيتية , واعيد الاعتبار اليه عام 1963 , ضمن تلك الاسماء الكثيرة من المعدومين والمعتقلين والمسجونين الابرياء , بعد التغييرات الجذرية المعروفة في الحياة السوفيتية اواسط القرن العشرين , وهكذا بدأت كتب ميرسكي بالظهور مرة اخرى في نفس روسيا , ومنها كتابه المهم جدا , الموسوم – تاريخ الادب الروسي منذ الازمان القديمة الى عام 1925 , الذي صدر في روسيا عام 2005 , ويقع في 965 صفحة من القطع المتوسط , وقد تم ترجمته عن الانكليزية , اذ ان ميرسكي أصدره في لندن عام 1927 , ولازال هذا المصدر المهم في تاريخ الادب الروسي يطبعونه ويعيدون طبعه في انكلترا , وهو الكتاب , الذي قال عنه نابوكوف , انه ( …أفضل كتاب حول تاريخ الادب الروسي بأي لغة , بما فيها اللغة الروسية …)