أعلن الرئيس الأمريكي التاسع والثلاثون جيمي كارتر خلال الأيام القليلة الماضية انه يعاني من مرض السرطان وسيدخل المستشفى للعلاج ولا يعرف فيما اذا سيشفى الرجل التسعيني أم سيقضي بقية حياته في المستشفى ، لكننا على كل حال نرجو له الشفاء العاجل والعودة الى عائلته ونشاطه السياسي العام سليما معافا. لقد بذل الرئيس كارتر خلال وجوده في منصبه جهودا متميزة في محاولاته لحل المشاكل الدولية المعقدة وتقديرا لذلك منحته لجنة نوبل الدولية للسلام جائزتها لعام 2002. نشر كارتر العديد من الكتب كان آخرها بعنوان ” حياتي الكاملة ” الذي اصدره قبل دخوله المستشفى. يذكر لكارتر تعهدا أطلقه بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية 1977 – 1981 بأنه سيعمل على حماية حقوق الانسان وهو التعهد الذي قطعه على نفسه الرئيس الحالي باراك أوباما أيضا الذي جاء بعده بثلاثين عاما.
لقد أنجز كارتر أعمالا عديدة مثيرة للاهتمام ومن بينها دعمه التفاوض مع الاتحاد السوفييتي حول معاهدة ( سالت 2 ) الخاصة بتحديد الأسلحة الاستراتيجية ( النووية) التي بدأت التفاوص بثسأنها حكومة سلفه جيرالد فورد لكنه لم يصادق عليها احتجاجا على غزو السوفييت لافغانستان عام 1979. وقد نجح في جمع رئيسا مصر واسرائيل في منتجع كامب ديفيد وساعدهما في التوصل الى اتفاق سلام عام 1978ما زال قائما. كما اصدر العفو العام عن الأمريكيين الذين امتنعوا عن الخدمة العسكرية في الحرب الفييتنامية. ومن منجزاته أيضا اصداره خطة لشمول الأمريكيين بالرعاية الصحية.
ورغم أن كارتر لم يغزو بلدا أجنبيا كما فعل أكثر الرؤساء الأمريكيين قبله وبعده كغزو فييتنام وغرنادا وبنما وافغانستان والعراق ، لكن كارتر قدم دعما ماليا وعسكريا وسياسيا واعلاميا وسايكولوجيا لنظم ديكتاتورية فاشية تورطت في قتل وجرح الملايين من ابناء شعوبها كمحاولة منه لكبح الحركات التحررية التي كانت تسعى لتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بلدانها. وكانت بعض النظم التي حظيت بدعم كارتر قد ارتكبت أعمالا بحق شعوبها ترقى الى جرائم الابادة الجماعية كما يراها الكثير من المحللين السياسيين ومن بينهم الكاتب الأمريكي نعوم شومسكي. وأدناه بعض ممارسات سياساته الخارجية في القارات الثلاث.
1- زائير ( الكونغو بعاصمتها كنشاسا ) عام 1977
بعد تصفية ( السي آي أيه) للرئيس الكونغولي باتريس لومومبا عام 1961 وهو المنتخب ديمقراطيا بعد استقلال بلاده نصبت مكانه عميلها موبوتو سي سيكو ليحكم البلاد لمدة 16 عاما. وفي عام 1977 قامت المعارضة المسلحة العاملة حتى ذلك الحين في أنغولا بالدخول الى الكونغو ومباشرة نشاطها لاسقاط نظام الدمية موبوتو الذي لم يتأخر في طلب المساعدة من الأمريكيين والأوربيين لقمع المقاومة المسلحة لنظامه. السفير الأمريكي السابق ومؤلف كتاب ( ” KILLING HOPE : US MILITRY AND CIA INTERVENTION SINCE WORLD WAR 2″ (قتل الأمل ) قد ذكر في كتابه ان الرئيس كارتر الذي كان قد أمضى شهرين فقط في البيت الأبيض لم يكن متحمسا للتورط مباشرة في الكونغو لأنه كما ذكر حينها لا يرغب في عمل لا يعرف نتائجه ، لكنه مع ذلك أمد موبوتو بمساعدات مالية وعدة آلاف من المستشارين العسكريين دون الاشارة الى الاسلحة والمعدات. بنفس الوقت صرح كارتر بأن مشكلة الكونغو هي مشكلة أفريقية ويجب أن تحل من قبل الأفريقيين أنفسهم في حين التزم الصمت عن قيام فرنسا وبلجيكا والصين الشعبية بارسال الاسلحة الى موبوتو.
2- غواتيمالا 1977
أصدرت الادارة الأمريكية بيانا انتقدت فيه خرق حقوق الانسان من قبل الحكومة العسكرية في غواتيمالا وأعلن بناء على ذلك خفض المساعدات العسكرية لتلك الدولة. لكن ذلك لم يكن الا غطاء اعلاميا في حين كانت غواتيمالا تستلم تلك المساعدات من اسرائيل ثم تقوم الحكومة الأمريكية بعدها بتعويض اسرائيل عن قيمة تلك الاسلحة. وبالاضافة لذلك كانت المساعدات الامريكية لغواتيمالا تذهب اليها عبر حكومة الشيلي والارجنتين. بنفس الوقت كانت فرق الموت تغتال الناشطين في مجال حركات حقوق الانسان والنقابات العمالية ورجال الدين بصورة مستمرة. وفي الارياف كان العسكريون يضطهدون ويعذبون القرويين ويحرقونهم أحياء كما فعلوا مع شقيق الحائز على جائزة نوبل للسلام ريفوبراتا مانوس بعبارة أخرى كانت الابادة الجماعية ضد شعب غواتيمالا من قبل حكومتها العسكرية مستمرة بمعرفة كارتر.
3- تيمور الشرقية 1977
بعد انتخاب أحمد سوكارنو رئيسا لاندنوسيا في انتخابات برلمانية عامة وديمقراطية أطيح به بانقلاب قام به الجيش بقيادة سوهارتو عام 1967 بمعرفة السي آي أيه. وفي عام 1975 قام وزير الخارجية هنري كيسنجر والرئيس الامريكي جيرالد فورد باعطاء الضوء الأخضر لسوهارتو لغزو تيمور الشرقية وبعد احتلال عاصمتها ديلي قامت قواته ببدء حملة لاستئصال أنصار المقاومة من أجل الاستقلال بقيادة ” الجبهة الثورية لتحرير تيمور الشرقية ” راح ضحيتها عشرات الآلاف من السكان المدنيين اضافة الى آلاف اخرى فتكت بهم الأمراض والجوع. وبرغم ان غزو تيمور الشرقية قد حصل أثناء رئاسة سلفه جيرالد فورد الا أن الجيش الاندنوسي استمر يرتكب المجازر ابان عهد كارتر من دون توقف. وبعد نشر الأرقام الحقيقية لضحايا الغزو الاندنوسي عام 1995 البالغة 200 الف ضحية أرسل البرلمان الأوسترالي الى الرئيس كارتر المنتهية ولايته برسالة بينوا فيها المذابح التي ارتكبها الجيش الاندونيسي في تيمور الشرقية في عهده طالبين منه التعليق عليها علنا لكنه امتنع عن التعليق.
وبحسب ما كتبه الصحفي الاوسترالي ريجارد دودمان في ذلك الوقت ” انه اثناء ما كان الحديث يتردد عن خرق الجيش الاندنوسي لحقوق الانسان في تيمور الشرقية فان اداراة كارتر استمرت تقدم الدعم العسكري والاقتصادي لقوات سوهارتو في حين كانت شركات النفط الاندنوسية تباثسر بكثافة استثماراتها في اندنوسيا.
4- أنغولا عام 1978
قامت قوات حكومة البيض في دولة جنوب أفريقيا العنصرية بارتكاب مجزرة في مخيم لللاجئين الناميبيين في كاسنغا بأنغولا المجاورة ذهب ضحيتها 600 مواطن. وعندما انتشر خبر المجزرة قامت الادارة الامريكية بمحاولة لتجنيب العنصرين البيض فرض عقوبات عليها من قبل مجلس الأمن الدولي. حيث صرح كارتر حينها بالقول ان قوات دولة جنوب افريقيا قد انسحبت وانه لا توجد اي قوات لها داخل انغولا وان ما حدث كان ردا على أعمال قامت بها انغولا وان كل شيئ قد انتهى. انه مثال صريح على التغطية المتعمدة على اعمال النظام العنصري ضد سيادة وشعب انغولا. بنفس الوقت صعدت امريكا مطالبتها بخروج 30 ألفا من الجنود الكوبيين الذين جائوا لحماية أنغولا من نظام بريتوريا العنصري الذي كان يحاول الاطاحة بالحكومة الوطنية فيها ونصب حكومة معادية للشيوعية بدلها.
5- أفغانستان عام 1979
عندما استلمت حكومة تقدمية السلطة في افغانستان عام 1978 باشرت باشاعة التعليم العام والرعاية الصحية لجميع السكان كما قامت باصلاحات في مجال حقوق المرأة لم تكن تمتلكها وغيرها من الاصلاحات الاجتماعية. لم يسعد ذلك الولايات المتحدة فحاولت تعزيز المعارضة الاسلامية المتطرفة للنظام الجديد عبر المساعدات المالية والعسكرية والتدريب على السلاح لاسقاط النظام الجديد ذي التوجهات الاشتراكية بدءا من عام 1979. وكما يذكر بلوم في كتابه “قتل الأمل ” وقع الرئيس كارتر في تموز يوليو من نفس العام قرارا بتقديم المساعدات والدعم للمقاومة الجهادية المسلحة وأقرنها بحملة اعلامية واسعة. التدخل الأمريكي وبلدان أخرى في أفغانستان أقلق الاتحاد السوفييتي فوجود حكومة غير صديقة تقام على حدوده ستسمح بوجود قوات امبريالية عدوانية على أراضيها. وفي كانون الأول ديسمبر الرابع والعشرين عشية أعياد الميلاد دخلت القوات السوفييتية أفغانستان. وبعد عشرة سنوات ومع خروج القوات السوفييتية كانت أفغانستان شبه مدمرة بنتيجة أعمال العنف التي مارستها قوات المجاهدين ضد الحكومة الأفغانية والقوات السوفييتية.
وبعد 22 عاما من تاريخ تدخلهم في أفغانستان واجهت الولايات المتحدة ثمار ما زرعته في أفغانستان عندما قامت مجموعة منها بشن عدوانها على الولايات المتحدة ذاتها. فاولئك الذين مولتهم العربية السعودية ودربتهم السي آي أيه لمحاربة حكومتهم والقوات السوفييتية قاموا بتحويل طائرات مدنية الى صواريخ استهدفت أراضي الولايات المتحدة لتصيب مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع الامريكية.
5 – السلفادور 980
في 192 1980 كتب القس أوسكار روميرو الذي يتمتع بشعبية واسعة بين سكان واعضاء حركة المقاومة الشعبية السلفادورية لمواقفه التضامنية من حركتهم رسالة الى الرئيس جيمي كارتر عبر فيها عن قلقه من تطور الوضع في البلاد جاء فيها :
” في الأيام الأخيرة ورد في التقارير التي تناولتها الصحافة المحلية بأن حكومتكم تدرس تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية للطغمة الحاكمة الحالية. ولأنك مسيحي وتعلن بانك تدافع عن حقوق الانسان فاني اخاطر بطلب ودي منك. فانا قلق بشأن تعهد الولايات المتحدة بارسال مساعدات عسكرية ومستشارين لتدريب ثلاثة وحدات على أعمال الاستخبارات والاتصالات. واذا صحت هذه التعهدات من جانب حكومتكم فبدلا من تحقيق العدالة والسلام في السلفادور فانكم بدون شك ستساعدون على زيادة حدة الاضطهاد واشاعة عدم العدالة ضد المنظمات الشعبية التي تكافح بصعوبة من أجل حماية المبادئ الأساسية لحقوق الانسان. أنا كلي أمل بأن مشاعرك المسيحية ورغبتك في الدفاع عن حقوق الانسان ستحفزك للاستجابة لالتماسي هذا لتجنيب البلاد المزيد من سفك الدماء والمعاناة” ( المدعي روميرو )
رسالة القس روميرو الى الرئيس كارتر لم تلق اذنا صاغية ، وبعد تسعة ايام من تاريخ أرسالها لقي القس روميرو مصرعه على أيدي احدى فرق الموت العاملة في السلفادور. وأثناء مراسم دفن القس روميرو قام قناصة فرق الموت بقتل 30 شخصا من الناس العزل ممن شاركوا في المراسم. وكان رد جيمي كارتر الآخر على رسالة القس روميرو ارساله خمسة ملايين دولارا للطغمة الحاكمة. تلك الأموال ستذهب لتمويل النشاطات القمعية ضد شعب السلفادور. وبفضل المساعدات السخية الأمريكية من اسلحة وأموال استمرت الحرب الأهلية لمدة اثني عشر عاما آخر. وقد وصل الارهاب قمته عام 1989 عندما اقتحمت احدى فرق الموت المجمع المسيحي اثناء أداء مراسم الصلاة وأمروا الرهبان الستة المتواجدين فيه بوضع ايديهم فوق رؤوسهم والسير حتى الحديقة الخلفية حيث أمروا بالاستلقاء ووجوههم على الأرض ثم اطلق عليهم الرصاص. وقد قتل معهم السيدة التي كانت تعني بخدمة المجمع وابنتها.
ولابد من الاعتراف برغم ما شاب عهد كارتر السياسي أثناء وجوده في القصر الأبيض من أخطاء جسيمة ارتقت الى مستوى جرائم ابادة الجنس ، لكن لابد من ذكر سجله الحافل بالاعمال الكبرى لم يتجرء أي رئيس أمريكي سابق او لاحق أن قام بها. فهو الرئيس الوحيد الذي وصف بكل صراحة وشجاعة بأن سياسة اسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة هي ” سياسة فصل عنصري .” وقد قادت آرائه الجريئة تلك الى توجيه انظار الرأي العام العالمي الى هذه الحقيقة التي لم تعترف بها الكثير من المؤسسات الرسمية الأمريكية والأممية. وقد عززت من حركة التضامن الشعبية العالمية مع نضال الشعب الفلسطيني ، وكانت احدى أهم نتاجها ظهور حركة مقاطعة ( BDS ) وحركة انهاء الاحتلال ” US Campaign to End The Israeli Occupation ” اللتان تدعوان لمقاطعة السلع والنشاطات والعلاقات الدبلوماسية ووقف الاستثمارات الاجنبية في اسرائيل وفرض العقوبات عليها.
ومن منجزاته ايضا لجنته المتخصصة بمراقبة عمليات التصويت البرلمانية وتكوين موقف عن مدا حرية ونزاهة الانتخابات في الدول المختلفة وخاصة في العالم الثالث. وقد تحدا كارتر وزير خارجية بلاده جون كيري عندما شكك بانتخابات فنزويلا التي فاز بها الرئيس الحالي نيكولاس مادورو حيث أكدت لجنته بان الانتخابات الفنزولية كانت ديمقراطية وحرة ونزيهة مما كبح الحملة الاعلامية المناهضة للرئيس الحالي التي قادتها المعارضة اليمينية المدعومة من الولايات المتحدة بقصد اسقاطه.
لكن كل ذلك لا يطهر يدي الرئيس كارتر الملطخة بدماء مئات الالاف وربما ملايين من ابناء افغانستان والسلفادور وغواتيمالا وانغولا وتيمور الشرقية عدا فرص التنمية الاقتصادية التي ضاعت بسببه في الكثير من دول العالم عبر القارات الثلاث.