18 ديسمبر، 2024 11:22 م

ميثم الجنابي الذي عرفت

ميثم الجنابي الذي عرفت

كنا نلتقي في سكن طلبة الدراسات العليا بجامعة موسكو أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكان ميثم يحدثني عن مشروع أطروحته، حول السعادة في الفكر الاسلامي، ويبحث عن مصادر في التصوف، زمن لم يصيبنا بالكسل،بفضل الإنترنت ،فكنا ننقب المكتبات عن المصادر.
حدثته عن هوامش مصطفى جواد واحمد حامد الصراف، على ديوان الحلاج، وكان الراحل الصراف، اهداني الكتاب الثمين، في واحدة من حالات التجلي الجميل عند ابو شهاب، الحاكم والمحامي الموسوعي الذي كانت مجالسه الادبية، مع مصطفى جواد، حديث النخب البغدادية، ويصل صداها الى كربلاء والنجف، وفيهما ذاع صيت الصراف، حاكما، كان يأخذ المتهم بيده الى مراقد الائمة، ويامره بالقسم ان يقول الحق، وغالبا ما تاتي الرحلة أمام الحشود بنتائج مفيدة.
فالحاكم الذي تلقى علومه في أوروبا واسطنبول وبغداد، كان يؤمن بان كتاب الله، لا يمثل لغالبية العامة؛ حَكما!
يضحك ميثم، بهدوء، كنا نحسده عليه؛ نحن المخترقين، بالصخب والعنف،مذ ابتلي بِنَا او ابتلينا به الحزب الشيوعي، وكان ميثم عضوا في صفوفه، لكنه لم يحمل أفكاره الشعبوية؛بل يتعمق في نظرية الحزب ويردد أن أغلب الاعضاء ومعظم القيادات لا يعرفون عنها شيئا!
دافع ميثم عن أطروحته ، وسافر الى اليمن، وانقطعت أخباره.
عاد الى موسكو استاذا في الجامعة الروسية، التي حين وصل الى الاتحاد السوفيتي، كانت ميمونة باسم الثائر الإفريقي باتريس لومومبا؛ وعنوانها جامعة الصداقة بين الشعوب؛ حتى غير الاسم ورثة الاتحاد السوفيتي، الليبراليون ذوي البناطيل القصيرة الملونة، كما وصفهم يوما روسلان حزباللاتوف، وكان رئيسا للبرلمان قبل انفراط عقد الدولة السوفيتية.
كان ميثم، المتصوف، والزاهد، لا يتردد عن تاليف كتب، وفقا لمواصفات دور نشر، تسعى للتبشير باسلام يتناسب وتصورات بعض الأنظمة ، لكنه لن يمتنع بالمقابل عن نقد الفكر الديني في تجلياته السياسية .
بيد ان الباحث، أخذ عليه بعض النقاد، انه لا يتقيد بالأصول الأكاديمية في الكتابة والتاليف، حتى ان الحدود تضيع بين أفكار المؤلف والاستعارات، والاستشهادات دون هوامش او مصدر.
ومرة تجادلت مع ميثم، حول المسافة بين التأليف والتوليف؛ وسمعت رأيا خلاصته، ان كتبه تتوجه بشكل عام نحو المتعلمين، والمهتمين بالسياسة والفكر، وليس الى أصحاب الاختصاص، الامر الذي يمنحه حرية التصرف بالنصوص، دون ان يثقل على القاريء بالهوامش والاستعارات والمصادر .
بعد إحتلال العراق، نشط ميثم الجنابي، في التاليف والنشر؛ وتمت استضافته في دولة الامارات العربية المتحدة، وفِي المملكة العربية السعودية، والتقى في البلدين مسؤولين كبار على حد علمنا.
كما ان جماعة حزب الله في موسكو نظمت لميثم زيارة الى جنوب لبنان؛ ولعله التقى قيادات الحزب المقاوم. ولم يعرف الجنابي التعصب الديني، أو المذهبي. وكان على قدر معرفتنا، علمانيا؛ لا دينيا.
اتسمت كتابات ميثم الجنابي حول العراق ما بعد الاحتلال،بمحاولة صياغة منهج للتعامل مع المعضلات المتوارثة في بلد تنهشه الصراعات المذهبية، وتهيمن على مقدراته، قوى اثبتت انها تسعى للقضاء على الدولة وليس على النظام.
وحاول الجنابي، ان يقدم المشورة للشرذمة الحاكمة، وخلافا لموقفنا في مقاطعة العملية السياسية، فانه لم يجد غضاضة في التعامل مع لاعبيها، متوهما، انه قد يتمكن من التاثير في صنع القرار.
ولا ندري ما اذا كان ظل محافظا على قناعاته، بعد ان اختلفنا في المنتدى الثقافي العراقي بروسيا الاتحادية، حول تقييم الاوضاع في العراق المحتل.
وكان ميثم الجنابي، ناشطا في ندوات المنتدى الذي تأسس قبل الاحتلال، وعقد الندوات لبحث مستقبل العراق، بعد السقوط الوشيك للنظام؛ وكنا نتبنى الدعوة الى تدخل الأمم المتحدة وتنفيذ القرار الاممي؛ بإجراء انتخابات حرة في العراق بإشراف دولي ، بدل التحضير للغزو.
ويمكننا القول؛ اننا توقعنا بوجه عام مآلات الوضع العراقي الكارثي اذا ما وقع الاحتلال، مع قناعة تامة بان المستهدف، الدولة العراقية، وليس النظام، الذي مارس شتى صنوف القمع والانتهاكات، تحت سمع وبصر التحالف الانغلوساكسوني، زمنا طويلا.
ومع ان عاقلا لم تساوره الأوهام، في قيام نظام ديمقراطي نزيه وعادل، حين رأينا الوجوه التي حملها المحتلون معهم الى بلادنا، الا ان الأمل راودنا؛ في الاستفادة من مبنى السفارة العراقية، والنادي الملحق بها في احد أفضل احياء وسط موسكو، مكانا لعقد فعاليات المنتدى، بعد ان اكتسب سمعة طيبة في الأوساط العربية والروسية، وحظيت ندواته بحضور ملفت.
وبالفعل أقمنا اول طاولة مستديرة في نادي السفارة العراقية، كان ميثم الجنابي وحليم كاصد، أستاذ التجارة الاقتصاد، ونجم الدليمي، استاذ الاقتصاد السياسي، ونخبة من الأكاديميين العراقيين والعرب، شاركوا في النقاشات، وربما كانت المرة الاولى في تاريخ ذلك المبنى العتيق،ان تتردد بين جدرانه، وجهات نظر مختلفة، على قاعدة الحوار البناء، وإحترام التباين.
وتشجع المنتدى الثقافي العراقي، الذي تشرفت بإدارته، منتخبا من قبل الأعضاء، في التخطيط لعقد ندوات تستكمل ما بدأناه قبل الاحتلال، في البحث عن رؤية فعالة، تضع العراق المنتهك على طريق إعادة البناء، والخيار الديمقراطي المدني.
وحصلنا على موافقة من السفارة، باستضافة ميثم الجنابي، في محاضرة بعنوان” الهوية العراقية وإشكاليات الفكرة القومية” وهي في الواقع، كانت عنوانا لآخر مؤلف له حينها.
وحرصنا على تقديم الطلب والحصول على الموافقة، قبل اسبوع من موعد الندوة.
وصباح الخميس 14 نيسان/ ابريل 2005؛ فوجئنا بمنع عقدها في مبنى نادي السفارة، ولم تفلح الاتصالات مع طاقم السفارة في معرفة أسباب الإجراء التعسفي؛ خاصة وان المنتدى سبق وأقام فعالية في النادي.
وأخيرا أبلغنا احد موظفي السفارة بان السفير ” أمر ” بعدم السماح للندوة في الانعقاد.
وعلى الفور أبدت جهات روسية وعربية؛ استعدادا لاستضافة استاذ العلوم الفلسفية والاسلاميات في الجامعة الروسية بروفيسور ميثم الجنابي مساء نفس اليوم .
وبالفعل؛ إستضافت احدى اكبر قاعات مكتبة اللغات الاجنبية؛ في موسكو المحاضرة التي شهدت مداخلات ونقاشات غاية في الأهمية والحيوية.
وقمنا بنشر رسالة مفتوحة حينها على موقع كتابات، موجهة الى وزير خارجية جمهورية العراق آنذاك، هوشيار زيباري، مع نسخة منها للسفارة في العراقية موسكو، التي لم يورق ربيعها الا بضعة أسابيع، وسقط قناع الديمقراطية المخادع من الوجوه، وظهرت حقيقة الزمرة التي جاءت مع الاحتلال لتدمير العراق.
واصلنا نشاطنا، في قاعات كريمة مختلفة، وكنا سبّاقين في عقد ندوة، حول الارهاب الفكري؛ اثر اغتيال الكاتب قاسم عبد الامير عجام، وسجلنا بما يشبه النبؤة، حقيقة ان مسلسل اغتيالات المثقفين والعلماء واصحاب الرأي المخالف، أنطلق ولن يتوقف، لان الحثالة الحاكمة، لن تسمح باعادة بناء الدولة المنهوبة، وانها تتحسس مسدسها حين تسمع كلمة ثقافة.
في هذه الاثناء، انشغل ميثم عن نشاطات المنتدى، الذي انحسرت فعالياته، لأسباب يطول شرحها.
لكن أستاذ الفلسفة، واصل يرفد المواقع الإلكترونية، وبشكل خاص موقع ( الحوار المتمدن) بالمقالات المستنيرة، وأصدرت له دور النشر في بغداد والقاهرة والرياض وبيروت ودبي، كتبا جسدت ، خزينا فكريا،يسعى لوضع تصورات فلسفية، إجتماعية، عن العراق المؤمل والمرتجى.
وربما كان ميثم الجنابي، لبضع سنوات، يصدق، ان الاحتلال، عازم على بناء مجتمع مدني، وأن قوى داخلية، تعيق العم سام عن تنفيذ مشاريعه النبيلة!
لكنا، أعتقدنا العكس، وقد اثبتت الوقائع، خطل الرهان على رعاة البقر في إعادة الحياة الى الدولة العراقية، وان قيام مؤسسات مدنية في العراق، ليس في أولويات أكبر سفارة في العالم، تهان كل أسبوع تقريبا، اليوم، برشقات صاروخية، ومسيرات من المليشيات التي راقبت الأجهزة الأميركية، خروجها القاتل ، من بين حطام المؤسسة العسكرية العراقية الضخمة التي هدها بريمر ومن لف لفه، وهو يقصف الطبيخ والدجاج المحمر مع العملاء الذين يعترف نفسه برخصهم.
رحل ميثم الجنابي، بعد سنوات من معاناة مع المرض، وازدادت في الأعوام الأخيرة عزلته، عن الجالية العراقية، وكان أصلا، يتحاشى الاختلاط الا مع أصدقاء محدودين. وترك في قلوب تلامذته ومحبي