لم يكن أبي يجيد تثبيت مسمار في حائط، كان موظفا لايعرف سوى الجلوس خلف مكتبه وانجاز المعاملات، لكنه في بعض الأحيان كان يجرب مواهبه في تصليح بعض أجهزة البيت الكهربائية عند تعرضها لعطل ما، وخصوصا الراديو والمسجل (كاسيت) ولم يجرؤ على الاقتراب من التلفاز الا مرة واحدة، فقد كانت الاجهزة الكهربائية شحيحة وباهظة الثمن. وفي حقيقة الأمر، فان والدي كان بارعا في تفكيك أي جهاز عاطل، فيقضي ساعات المساء في محاولة اصلاحه، وقد تكومت قربه كل أنواع الادوات من مفكات وسكاكين و و.. وويل لمن يقترب منه خلال انهماكه في صراعه مع الجهاز، فلن يلوم الا نفسه. وبعد ان يأخذ منه التعب والغضب مأخذا، يصرخ طالبا (العلاكة)، حتى ان والدتي تعودت ان تحضرها له في نهاية كل صولة ليجمع فيها أجزاء ماكان يدعى جهازا، فيودعها في دولابه الخاص مع سابقاتها حتى كاد الدولاب أن يمتلأ بالاكياس التي تحوي اجهزة منسية، فعادة ما كان أبي يقنع نفسه بأنه سيأتي عليه وقت يكون فيه اكثر تركيزا واستعدادا لايجاد الخلل.
لم أكن افهم سر اصرار والدي على ان يتولى بنفسه عملية التصليح رغم انه لايمتلك أية خبرة، بينما يمكنه ايكال الأمر الى مصلح شانه شأن الاخرين؟ الآن بت أرى ان تكراره للمحاولة يعود الى كونه لم يلق نظرة على ماتكدس في الدولاب من الاكياس التي لم يجد لها حلا بعد تقادم الزمن الا رميها في سلة المهملات.
.. وأنا أشاهد اجتماع القادة العراقيين (الرمزي)، فكرت في (الجارور) الذي ستخزن فيه تفاصيل هذا الاجتماع بعد ان يتحول الى ذكرى. غالبية الآراء اتفقت انه جاء في وقته بعد ان خاضت البلاد في حمام من الدم راح ضحيته اكثر من الف قتيل و2700 جريح في شهر آيار. وكعادتها، طبلت بعض وسائل الاعلام والسياسيين للاجتماع بوصفه المفتاح السحري للازمة الحالية. بينما تعالت بعض الأصوات (الغير متفائلة) هنا وهناك لتقول بأنه غير ذي جدوى. احد النواب وصف صلح السيدان المالكي والنجيفي على انهما “اتفقا حول نوع الشاي الذي شرباه والحلويات التي تناولاها في الاجتماع، وان الرجلين في واد والشعب في واد آخر”، وهذه الجملة الأخيرة هي اقرب الى الحقيقة، لأنهما لو كانا في واد واحد مع الشعب لما استطاعا ابتلاع أي نوع من البسكويت أو حتى شرب الماء.
وفي تعليق آخر، انبرى احد النواب بتحليل (لذيذ) للّقاء بقوله “ان دعم هذه المبادرة يحتاج الى اصلاحات مثل اطلاق سراح المعتقلين وحل الميليشيات والمادة كذا والمادة كيت”.. و(تيتي تيتي.. مثل مارحتي اجيتي).
وكحال أبي، يضع السياسيون كل المشاكل العالقة في الدولاب.. ليصبح الصلح بين المالكي والنجيفي هو كل ماينتظره الشعب وكأنه صلح بين عدوين على أمل عقد هدنة ستحقن الدماء لفترة من الزمن.. قد يستأنف الصراع بعدها، أو قد تبقى حالة الود قائمة طالما ان جون بايدن (يصرف رصيد) ليعبر عن خيبة امله ويمعن في تقريع السياسيين بسبب تخريبهم لمشروع امريكا الوردي في دولة العراق الديمقراطية التي كان من المفروض ان تكون الانموذج المستقبلي لدول الشرق الاوسط فكانت (تميمة الشيطان) التي قلبت الانظمة والشعوب والحياة كلها حتى تحول نصف العالم الى هرج ومرج تحت عنوان (الربيع) الذي تحول الى اوربي وليس فقط عربي.
يذكرني تفاؤل بعض البسطاء وغير البسطاء من الشعب باحتفالاتهم عند فوز كلينتون بانتخابات الرئاسة الاميركية للعام 1992، وكأنه سينتقم لهم من بوش، ليكتشفوا خيبتهم بعد ذلك.
لاأريد أن أبدو متشائمة.. لكني أرى ان الأمر لايحتاج الى فلسفة. ليس عيبا أن يعترف الانسان بعجزه وفشله ويطلب العون والخبرة من اهلها، لكن العيب أن يستمر، وليس ذنب الشعب ان تولت اموره نخبة ليست لها خبرة أو تاريخ سياسي، ورغم عشر سنوات لم تتعلم بعد. مالضير ان اعتمد الساسة على مستشارين حقيقيين لا (ديكور) مهما كانت اصولهم وانتماءاتهم، على الأقل كي لاينكشف عريّ القادة وجهلهم أمام الجميع، وهذا سياق متبع في معظم دول العالم، فمشاكل البلد التي كادت او قد تقوده الى ابادة جماعية أو حرب طائفية أو أي نوع من الدمار لاتحتاج في حلها سوى الى ادارة محنكة، وليس هواة..