نشرت كمقالة باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).
نص النهي عن التعميم والإطلاق هو ما جاء في سورة آل عمران 113 -114:
«لَيسوا سَواءً؛ مِّن أَهلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتلونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيلِ وَهُم يَسجُدونَ، يُؤمِنونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسارِعونَ في الخيراتِ، وَأُلائِكَ مِنَ الصّالحينَ».
ولا أكرر ما ذكرته عن إشكالي على جعل معيار التقييم هو معيار (الإيمان)، وبشكل خاص (الإيمان) بمعناه الديني، لا بمعناه الفلسفي المتجرد، والمقترن بالعمل الصالح، والذي يشتمل على بعد إنساني عام، إلا أن معياره هو المعيار الديني أيضا، وليس المعيار الإنساني المتجرد، على قاعدة ما يسمى بالحسن والقبح العقليين.
وهناك ثمة نص يمتدح المسيحيين بشكل خاص، ولكنه يذم اليهود، وحتى مدح المسيحيين فهو على ضوء شروط ومعايير القرآن نفسه. فنقرأ في سورة المائدة 82-86:
«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِّلَّذينَ آمَنُوا اليَهودَ وَالَّذينَ أَشرَكوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ قالوا إِنّا نَصارى، ذالِكَ بِأَنَّ مِنهُم قِسّيسينَ وَرُهباناً، وَأَنَّهُم لا يَستَكبِرونَ، وَإِذا سَمِعوا ما أُنزِلَ إِلَى الرَّسولِ تَرى أَعيُنَهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمّا عَرَفوا مِنَ الحقِّ؛ يَقولونَ رَبَّنا آمَنّا، فَاكتُبنا مَعَ الشّاهِدينَ، وَما لَنا لا نُؤمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الحقِّ وَنَطمَعُ أَن يُّدخِلَنا رَبُّنا مَعَ القَومِ الصّالحينَ. فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالوا جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها، وَذالِكَ جَزاءُ المُحسِنينَ، وَالَّذينَ كَفَروا وَكَذَّبوا بِآياتِنا أُولائِكَ أَصحابُ الجحيمِ».
الذي يقرأ هذا النص بدقة يجد – ناهيك عن الموقف المتشنج تجاه اليهود – أن الممدوحين من المسيحيين هنا، هم حصرا الذين اقتنعوا بدعوة محمد، وليس الذين بقوا على مسيحيتهم. فالآية تمدح من المسيحيين أولئك الذين «إِذا سَمِعوا ما أُنزِلَ إِلَى الرَّسولِ تَرى أَعيُنَهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمّا عَرَفوا مِنَ الحقِّ، يَقولونَ رَبَّنا آمَنّا، فَاكتُبنا مَعَ الشّاهِدينَ، وَما لَنا لا نُؤمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الحقِّ وَنَطمَعُ أَن يُّدخِلَنا رَبُّنا مَعَ القَومِ الصّالحينَ»، أي الذين تأثروا بدعوة الإسلام، وصدقوها، واقتنعوا بها، وتفاعلوا وجدانيا معها، بحيث «إِذا سَمِعوا ما أُنزِلَ إِلَى الرَّسولِ، تَرى أَعيُنَهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ»، ويعبّرون عن إيمانهم بالإسلام بقولهم: «رَبَّنا آمَنّا، فَاكتُبنا مَعَ الشّاهِدينَ»، ثم يبررون إيمانهم بقول «وَما لَنا لا نُؤمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الحقِّ وَنَطمَعُ أَن يُدخِلَنا رَبُّنا مَعَ القَومِ الصّالِحينَ»، أي المسلمين. فهؤلاء فقط من المسيحيين من يمتدحهم القرآن، ويعدهم بالثواب: «فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالوا جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها، وَذالِكَ جَزاءُ المُحسِنينَ». إذن المديح هنا ليس للمسيحيين، بل لفريق من المسلمين، أولئك الذين كانوا من قبل مسيحيين، أما الذين لم يؤمنوا بالإسلام من المسيحيين، بل بقوا على مسيحيتهم، وبالتالي على (كفر)هم حسب المعايير القرآنية المحمدية، فـ«الَّذينَ كَفَروا وَكَذَّبوا بِآياتِنا أُولائِكَ أَصحابُ الجحيمِ». فإذن الاستشهاد بهذه الآية بأن للقرآن ثمة موقفا إيجابيا تجاه المسيحيين غير دقيق، وهو يطرح من المسلمين المدافعين عن القرآن، إما عن علم مجانبا للصدق، وإما عن غير علم جهلا، وعبر نزعتهم الإنسانية من جهة، وحسن ظنهم بالله من جهة ثانية، واعتقادهم بإلهية الإسلام والقرآن من جهة ثالثة، وهذ كله مما يستحقون عليه الثواب، لاسيما إذا حسنت نواياهم.