18 ديسمبر، 2024 11:46 ص

موقع سورية في الصفقة الممكنة بين موسكو وواشنطن

موقع سورية في الصفقة الممكنة بين موسكو وواشنطن

بدأ حديث المقايضات في إطار صفقة أميركية – روسية بشأن سورية إنما ليس في إطار الصفقة الكبرى بين البلدين بما يشمل أوكرانيا ومصير العقوبات المفروضة على روسيا والتي ما زالت هدفاً بعيد المنال وصعب التحقيق. موقع إيران داخل سورية جزء من الحديث الجاري بلغة الممرات و «المطارات». «حزب الله» لن يتواجد في الجولان تلبية لمطالب إسرائيل الاستراتيجية، إنما موقف إسرائيل من فكرة الممر الإيراني إلى لبنان مرفق بتسهيلات مطار له هو اللافت، إن أتى بالموافقة العلنية أو الخفية. زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى موسكو واجتماعه بنظيره الروسي سيرغي لافروف لحوالى أربع ساعات تبعه استقبال الرئيس فلاديمير بوتين إياه دليل على بدء حديث جدي بين إدارة ترامب وحكومة بوتين حول العلاقة الثنائية ومواقع الصفقة الممكنة، ولقد وقع الخيار على سورية. مشروع القرار الأميركي- البريطاني- الفرنسي في مجلس الأمن الذي دان استخدام الأسلحة الكيماوية في إدلب وطالب بفتح المطارات للتحقيق لاقى الفيتو الروسية الثامنة بعدما طلب المندوب الروسي تأجيل التصويت نظراً لتفاهمات بين تيلرسون ولافروف. لكن مؤشرات التصعيد في نيويورك عبر معارك الفيتو ليست بأهمية المقايضات التي بدأت بالتوازي في موسكو في اليوم ذاته. السفيرة الأميركية نيكي هايلي أطلقت المواقف الأميركية الافتتاحية للمفاوضات مع روسيا من قاعة مجلس الأمن الذي تترأسه للشهر الجاري، مشددة على «الشراكة» التي تريدها الولايات المتحدة مع روسيا في سورية. اتفاق وزيري الخارجية على محطات الشراكة والتفاهمات كان له عنوان لافت عند التأكيد على وحدة أراضي سورية، إلى جانب التأكيد على الشراكة في ضرب «داعش» كأولوية، فسورية الموحدة تعني رفض تقسيمها الذي يتم ميدانياً بما يخدم «الهلال» الذي هو جزء من المشروع الإيراني في سورية، ولذلك يدور الحديث عن ممر ومطار، تعويضاً لطهران التي لا تريد موسكو التخلي عنها إثباتاً لوفائها لحلفائها في التكتيك وفي الاستراتيجية. فموسكو تريد الصفقة مع واشنطن إنما ليس بأي ثمن. كلاهما يقر بأن الرئيس السوري بشار الأسد راحل عاجلاً أم آجلاً، فهو بات الآن «العقدة» المرحلية وليس العقدة المصيرية لسورية. رسالة واشنطن الأساسية إلى موسكو هي أن الفرصة مواتية لتأمينها باستراتيجية خروج من التورط في سورية على أساس صيانة مصالح أساسية لها، وإلا أمامها أن ترث سورية مكسَّرة بكل ما فيها من «دواعش»، ومعارضة عسكرية مُمكَّنة أميركياً، وعزم أميركي على الاستمتاع بتورط روسيا وإيران معاً في المستنقع. رسالة موسكو إلى واشنطن فحواها أنها جاهزة للمقايضة شرط ألا ترتبط الصفقة بأي انطباع يقلّل من مكانة روسيا كدولة استعادت العظمة عبر البوابة السورية، وشرط إقرار الولايات المتحدة بمصالح روسيا الاستراتيجية. مساحة التقاطع بين الرغبتين تبدو اليوم واسعة في أعقاب العملية الأميركية العسكرية في سورية التي فتحت باب المفاوضات الجدية.

صانعو القرار الأميركي نحو روسيا في سورية داخل الإدارة الأميركية -وخارجها- هم عسكريون يتقنون لغة الاستراتيجية الجغرافية- السياسية، وهم من كبار القيادات العسكرية الأميركية وأبرزها. سفيرة الديبلوماسية الأميركية، نيكي هايلي، نالت تقدير وإعجاب هذه المجموعة الفاعلة في صنع القرار، وباتت المعبِّر الأول عن السياسة العسكرية- السياسية الصادرة عن إدارة ترامب. الفكرة الأساسية وراء الرد العسكري السريع على استخدام الأسلحة الكيماوية في خان شيخون هي رسم الخطوط الحمر في الرمال نحو روسيا وإيران وليس فقط نحو سورية.

العنوان الأساسي هو إنهاء النزيف في سورية وإبلاغ الكرملين أن إدارة ترامب تعي أن السياسة الروسية والإيرانية قائمة على «الحل العسكري» في سورية وليس «الحل السياسي»، ولذلك قررت أن فرض ظروف وشروط عسكرية أميركية بات العنصر الجديد في المعادلة، في انقلاب على ظروف النأي بالنفس التي تبنتها إدارة أوباما في سورية.

هناك حوالى ألف عنصر عسكري أميركي في ساحة الحرب السورية، إنما هناك قدرات استطلاعية ضخمة لها قيمتها في ساحة الحرب العصرية. الخطط العسكرية جاهزة، ولذلك تمكن الرئيس دونالد ترامب من اتخاذ قراره بفورية إنما ليس باعتباطية، فلقد أحاط نفسه بقيادات عسكرية- سياسية وبات براغماتياً وجاهزاً لممارسة دوره وصلاحياته كرئيس الولايات المتحدة بناءً على النصيحة المهنية.

هؤلاء الفاعلون في صنع السياسة الأميركية الخارجية يريدون حواراً استراتيجياً مع روسيا، وهم ينظرون إلى تحديد مستقبل العلاقة الأميركية- الروسية من منظور التفوق العسكري الأميركي القاطع في المعادلة العسكرية بين الدولتين. بكلام آخر، رهانهم هو أن روسيا لن تجرؤ على مواجهة الولايات المتحدة عسكرياً، وأن كل قراراتها في سورية ستأخذ المعادلة العسكرية في الاعتبار. هذه أداة تفاوضية، في نظرهم، وهم جاهزون «لإبلاغ» العزم العسكري تكراراً، إذا كانت هناك حاجة لمثل هذا الإبلاغ، إنما ما يريدونه هو الحوار الاستراتيجي والتفاهمات ضمن فن صنع الصفقة.

إدارة ترامب مستفيدة من انطباع التصعيد مع روسيا لأنه يضع الرأي العام الأميركي خارج حلقة الشكوك والتهم بعلاقة مشبوهة بين أركان حملة ترامب الانتخابية وبين الحلقة الفاعلة في الكرملين بقيادة فلاديمير بوتين. الخوف من التصعيد مع روسيا قد يساهم أيضاً في تقبّل الصفقة الأميركية- الروسية، فالمسألة ليست مجرد تغيير الحديث الداخلي وإنما هي تجهيز المزاج الداخلي لتقبل التفاهمات الأميركية- الروسية.

عناوين إدارة ترامب في المباحثات مع الكرملين، بحسب مطلعين عن كثب على الحديث الأميركي- الروسي الجديد هي: فرض الحدود على النفوذ الإيراني في سورية، إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش»، وعدم إلحاق أي أذى بالمصالح الإسرائيلية. الرسالة الأميركية الأساسية إلى روسيا -يقول هؤلاء- هي: احذري، إن الوعاء الذي تكسرينه سيصبح ملكك. وهذا، في رأي إدارة ترامب أداة تأثير فاعلة لإيقاظ الكرملين إلى مغبة رفض الشراكة المعروضة.

القصد من مقولة امتلاك الوعاء المكسور هو أن سورية، في حال فشل التفاهمات، ستكون ساحة حرب أهلية، وفي حال «صوملة» لعشر سنوات أو أكثر، وسيكون في وسع الإرهابيين الذين هاجروا إلى سورية العودة إلى بلادهم ومحيطهم للانتقام فيما روسيا تغرق في مستنقع سورية، والكلام هنا عن المقاتلين الشيشان ومن الجمهوريات الإسلامية الخمس المحيطة بروسيا. «أفغنة» سورية أو «صوملتها» ليس في مصلحة روسيا، وفق التقويم الأميركي، ولذلك هي تحتاج لأن تعيد النظر في مواقفها.

تمسك موسكو ببشار الأسد تكتيكي ومؤقت وقابل للمقايضات، بحسب التفكير الأميركي، لا سيما أن البحث متقدم في عملية صياغة البديل من الأسد المقبول أميركياً وروسياً. وبما أن واشنطن ليست في عجلة كبرى لترحيل الأسد، وهي جاهزة للقبول باستمرار أركان النظام في دمشق من دون عائلة الأسد، فآفاق التوافق متوافرة، فمصير الأسد لم يعد العقدة الرئيسية في حال التوصل إلى التفاهمات الاستراتيجية الضامنة للمصالح الروسية والأميركية في سورية. والتركيز هنا هو على شرط التوصل إلى التفاهمات والصفقة.

مصير «حزب الله» ومصير الميليشيات التي تديرها طهران في سورية هو العقدة الأكبر. موسكو ليست جاهزة للتخلي عن طهران، وواشنطن تفهم صعوبة ذلك. لهذا، يدور الحديث حول معالجات واقعية لعقدة إيران في سورية. «حزب الله» جاهز للانسحاب من سورية حالما ترتئي طهران أن الوقت حان، وطهران لن تفعل ما لم تضمن ممراً لها إلى «حزب الله» في لبنان. موسكو جاهزة للإصرار على طهران أن تتأقلم مع واقع التفاهمات -إذا حصلت- وهي تقع تحت ضغوط أميركية مصرّة على تقليص نفوذ إيران في سورية، في حال أرادت الصفقة مع واشنطن.

روسيا قادرة على احتواء الطموحات الإيرانية والمشروع الإيراني في سورية ولديها أكثر من أداة، أبرزها، «تعرية» إيران عسكرياً في سورية إذا سحبت عنها الغطاء الحامي لها في علاقتهما الميدانية الاستراتيجية. إيران تعي تماماً أنها غير قادرة على الاحتفاظ بالأسد بمفردها ولا على فرض مشروعها في سورية ما لم تسمح لها روسيا بذلك. إدارة ترامب تستخدم تلك المعادلة لمطالبة الكرملين بحسم أمره من إيران. ولهذا يبرز الكلام عن إمكان التوافق الأميركي- الروسي على ممر ومطار لإيران يلبي وصولها إلى «حزب الله» في لبنان.

ما لا تريده موسكو هو الإيحاء بموافقتها على تغيير النظام في دمشق، ليس لأنها متمسكة ببقاء الأسد وإنما لأنها تخشى «مبدأ» تغيير أي نظام، في سورية أو في أوكرانيا أو غيرهما، لأنها في الواقع تخشى أن يكون هذا المبدأ من نصيبها بقرار أميركي. موسكو لن تتخلى عن إنجازاتها في سورية في غياب ضمانات أميركية تقر بمصالحها الحيوية في سورية، من القواعد العسكرية إلى حصتها في إعادة الإعمار، إلى بقائها قوة كبرى في الشرق الأوسط تؤخذ في الاعتبار.

وإلى حين وضوح تام لإقرار إدارة ترامب بهذه الركائز الأساسية للمصالح الروسية، لن تتراجع موسكو إطلاقاً عن تمسكها بالأسد ولا عن تحالفها مع إيران، فالحديث عن الصفقة ما زال في بدايته والطريق إلى إتمام الصفقة السورية وعرة ومثقلة بمطبات المفاجآت على الساحة السورية كما في ساحة العلاقة الروسية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكذلك في موازين التطورات في أوكرانيا حيث تقبع تلك الصفقة الكبرى المستبعدة حالياً.

الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً بتورط مباشر في الحرب السورية أو في أوكرانيا، لكن إدارة ترامب لن تنأى بنفسها كما فعلت إدارة أوباما، فهي متأهبة لتوجيه ضربة عسكرية تلو الأخرى إذا لزم الأمر، وهي واثقة من أن موسكو لن تجرؤ على مواجهتها عسكرياً. إدارة ترامب جاهزة لصفقة مع روسيا لكنها لا تخشى رفض روسيا الصفقة، لأن الرفض سيؤذي روسيا أكثر ويجرها إلى مستنقع خطير في سورية.

فإذا كانت سورية موقع استعادة فلاديمير بوتين كرامة روسيا القومية ومكانتها قوةً عالمية في زمن باراك أوباما، فإن دونالد ترامب عازم على تنفيذ تعهده بجعل أميركا دولة عظمى مجدداً، لذلك يخاطب روسيا بلهجة فوقية من البوابة السورية.
نقلا عن الحياة