ان عملية تحديد الوضع الستراتيجي لتركيا في العقدين الاخيرين، وتقييمه من جديد، تعتبر اصعب من غيرها، لارتباطها بفهم طبيعة بناء هذه الدولة التي تعيش داخل محيط ديناميكي متبدل بشكل كبير، ومن الممكن انها تعيش اهم تحولاتها التاريخية من جهة، وتشكل ضمن محيط دولي ربما يشهد اهم تحولاته التاريخية من جهة اخرى.
فمنذ صدور هذا الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، في طبعته التركية عام 2001، وقعت متغيرات جذرية في السياسة الخارجية التركية التي ما تزال تشهد عملية تغيير مستمرة الى يومنا هذا.. فمع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة عام 2002، اجتهدت الحكومة التركية لاعادة تعريف مبادئ السياسة التركية واعطاء هذه السياسة ابعاداً جديدة. ومن الجدير بالذكر – الكلام للمؤلف- ان التعريفات الجديدة للسياسة الخارجية التركية لم تبق حبيسة اطرها النظرية بل وجدت فرصتها للتطبيق والتفعيل واحرزت نجاحات باهرة وملموسة.
ولعل ابرز الامثلة على هذه النجاحات حول التحول الذي طرأ على علاقات تركيا بالدول العربية التي باتت ترتكز على ارضية تضامنية ذات محور تعاوني بعد ان كانت تخيم عليها اجواء الخلافات والنزاعات قبل ثماني سنوات فقط.
وترغب تركيا- يؤكد المؤلف- في تحويل هذا التضامن والتعاون في الشرق الاوسط بخاصة، الى واقع راسخ ومؤثر على المدى البعيد، كما تسعى الى تبني مقاربةمتعددة الابعاد، حيوية، ومستديمة، تجاه كل الاقاليم الجغرافية المرتبطة بها.
وتنظر تركيا الى هذا التفاعل متعدد الاطراف على انه لوحة فسفسائية متناسقة الاجزاء، ومتكاملة. وقد وجدت هذه الحيوية التركية قبولاً وتقديراً واسعاً من الدول الاوربية الحليفة، ومن الادلة على ذلك- يشير المؤلف- تشجيع هذه الدول الوساطة التركية في اكثر مناسبة لحل ازمات المنطقة.
على الشاكلة ذاتها، تتبوأ تركيا وعلى نحو غير مسبوق موقعاً مركزياً على مسرح الحراك الدبلوماسي في منطقة الشرق الاوسط، بينما تدفع القوة الناعمة والمصداقية التي تتمتع بهما تركيا، دول المنطقة للعمل بشكل مشترك على حل المشكلات الاقليمية، وهو ما يساهم في تحقيق ايجابية على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية.
ومن جهة اخرى – الكلام مازال للمؤلف- تؤكد السياسة الخارجية التركية دائماً على ضرورة وحتمية الحوار السياسي. وقد استطاعت الدبلوماسية التركية بالفعل تغيير مناخ العلاقات الدولية في مناطق مختلفة، مثل الشرق الاوسط والقوقاز والبلقان، وذلك عبر النجاح في جمع اللاعبين الاقليميين، على مائدة واحدة بعد ان كان اجتماعهم صعب المنال.
ان اغلب النظريات والتحليلات ووجهات النظر الاسترايجية، تسعى بشكل جدي لتجاوز الصعوبات التي تتعرض لها المجتمعات في فترات التحول الحادة. وتعمل على تسريع كل ما من شأنه ان يؤدي الى ظهور المجتمعات في المسرح التاريخي من جديد والمحافظة على وجودها فيه، واستعدادها، لأن تتحول الى قوة مؤثرة.
ان العنصر الاساسي الذي يضفي على النظريات الاستراتيجية صفة البقاء والديمومة، يتمثل في قابلية هذه النظريات بدراسة التاريخ والجغرافيا، وهما معطيان ثابتان للدولة/ المجتمع. باعتبارهما مواضيع بحثية تتمركز حولهما المقاربات الاستراتيجية. بمعنى ان دراسة تاريخ وجغرافية الدولة او المجتمع بعمق، يوفر منظوراً مزدوجاً يشمل على بعدي الزمان والمكان. وبينما يحقق العمق التاريخي الذي يقيم التواصل بين الماضي- الحاضر- المستقبل، القدرة على ادراك الواقع المعاش داخل البعد الزماني، فانه يوضح من ناحية اخرى تأثير الادراكات والانماط السلوكية، والتصورات الاستراتيجية لدى اللاعبين في كل مجال تطبيقي في هذا البعد. فالسعي الى وصف حالة ما في العلاقات الدولية الراهنة بدون النفوذ الى عمقها التاريخي، يشبه اجراء تحليل سيكولوجي لشخص مع تجاهل محتويات ذاكرته. بمثل هذه المقاربة يصعب توفر القدرة على فهم وتحليل الازمات الراهنة، ورسم منظور مستقبلي ضمن استراتيجية مستمرة.
اما العمق الجغرافي فيكشف عن الاستمرارية المكانية للدولة او المجتمع محل الدراسة، ويقدم توصيفاً للساحة الاستراتيجية التي يجري عليها التأثير المتبادل. وثمة علاقة تبعية وارتباط تأخذ صورة دوائر متداخلة بين المقاييس الداخلية لمجتمع ما، والساحات الاقليمية التي يجري عليها التأثير المتبادل. ويتصدر الوعي الداخلي بدراسات العمق الجغرافي الشاملة التي تجري في الفترات الدينامية معايير التوجيه الاستراتيجي الدائم.
وهناك ضرورة للمزاوجة بين المقاربة الاستراتيجية ذات العمق التاريخي القادرة على ادراك الارتباط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين تحليل العمق الجغرافي القادر على اقامة تواصل سليم بين المقاييس الداخلية والاقليمية والدولية. وتكتسب العناصر الجيوثقافية والجيوسياسية والجيواقتصادية التي تشكل ارضية العمق الاستراتيجي لدولة ما، دلالة هامة في مساحة التداخل هذه.
ان تفسيـر عملية ما، يتطلب عمقاً تاريخياً يستـوعب عامل الزمن وعمقاً جغرافياً يستوعب عامل المكان. يحقق العمق التاريخي دخولنا الى روح الاحداث –على حد قول المؤلف- ويحقق العمق الجغرافي دخولنا الى المجال المادي الذي تجسدت فيه هذه الروح. ان محاولة تحديد الوضع الدولي للمجتمعات التي لا يمكن حصر تأثيرها بالمساحة الجغرافية التي تقع عليها بسبب اعتبارات تاريخية او بسبب عوامل تأثير فعلية لا بد ان تضع في مركز نظرتها التحليلية المتنافسة العمق الثنائي (الجغرافي/ التاريخي). لذا، فان التحليل الذي يفتقر الى العمق الجغرافي سينتج عنه عموميات سطحية لا تستطيع ربط الجزء مع الكل، ومن خلال الوحدات الجزئية المتقطعة لا يمكن الوصول الى تكامل متناسق.
لقد شرعت تركيا مع بداية العقد الحالي في تطوير رؤيتها وسياستها على نحو يتواكب مع المستجدات في القرن الحادي والعشرين، وبذلت جهدها لارساء هذه الرؤية على ارضية صلبة توظف فيها موروثاتها التاريخية والجغرافية والتوظيف الامثل. ويتعيـن على تركيا من ثم الالتزام بستـة مبـادئ حتى يتسنى لها تطبيق سياسة خارجية ايجابية وفعالة.
المبدأ الأول- التوازن السليم بين الحرية والأمن.
المبدأ الثاني- تصفير المشكلات مع دول الجوار.
المبدأ الثالث- التأثير في الاقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار.
المبدأ الرابع- السياسة الخارجية متعددة الابعاد.
المبدأ الخامس- مبدأ الدبلوماسية المتناغمة.
المبدأ السادس- اسلوب دبلوماسي جديد.
وفق هذه المبادئ تبنت تركيا ثلاث سياسات متباينة انتهجتها تجاه الشرق الاوسط.
الأولى- هي الابتعاد التام عن الشرق الاوسط ومشكلاته. والثانية- هي تطوير سياسات متناغمة مع سياسات معسكر دولي ما، كسياستها خلال الحرب الباردةانطلاقاً من تجنب تحمل مخاطر المبادرة منفردة في المنطقة. والثالثة- فتقوم على النظر الى الشرق الاوسط عبر مقاربة تركية خالصة مركزها انقرة. وان بدت السياستان الاولى والثانية مقبولتين من الناحية النظرية الا انهما تفتقران الى فرص التطبيق على ارض الواقع حالياً.
وفي ضوء الحقائق والمعطيات الجغرافية والتاريخية، تتبنى تركيا اربعة مبادئ اساسية في سياستها تجاه الشرق الاوسط. المبدأ الاول هو احلال الامن وكفالته لكل شخص دون تمييز بين مجموعة واخرى ودولة واخرى. والمبدأ الثاني هو الارتقاء بمستوى الحوار السياسي الى اعلى درجة، وهو الهدف الذي من اجله تجري الحكومة التركية زيارات مستمرة مكثفة داخل الشرق الاوسط، اما المبدأ الثالث فهو الترابط الاقتصادي المتبادل الذي من شأنه ان يحقق التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة. وأخيراً، المبدأ الرابع الذي يوجه سياسات تركيا في الشرق الاوسط، هو التعددية الثقافية، اذ ترى تركيا ان الحفاظ على التعددية العرقية والمذهبية شرط اولي لاستقرار المنطقة.
اما سياستها تجاه العراق -يشير المؤلف- فقد تحكمت في علاقاتها مع العراق حالياً اساسان هامان:
الاول- ان بقاء العراق كمصدر للأرهاب تجاه تركيا أمر لا يمكن تقبله. وقد قطعت تركيا في هذا الموضوع شوطاً كبيراً عبر العلاقات الثنائية مع العراق وانتهاج سياسة دبلوماسية متعددة الابعاد. وثمة تعاون استخباراتي بين تركيا والولايات المتحدة في مجال مكافحة حزب العمال الكردستاني. هذا بالاضافة الى ان كافة العناصر العراقية والادارة المركزية في العراق تدعم حق تركيا المشروع في مكافحة الارهاب.
الثاني- فيتمثل في وجوب حماية الديموغرافيا السياسية في العراق بما فيها كركوك، حيث ينبغي توفير الحياة بشكل آمن وسلمي في العراق للأكراد والتركمان والعرب على حد سواء. ومن هذه الزاوية ثمة امر ينبغي اخذ جانب العقل فيه، وهو ان بغداد وكركوك اللتين تتداخل فيهما كافة المكونات، منطقتان تستوجبان الحصول على وضعية خاصة، والا فاذا ما اندلعت صدامات عرقية ومذهبية في بغداد وكركوك فسيكون من المستحيل الا ويعم العراق كله.
ان حساسية مسألة كركوك بالنسبة الى تركيا ترجع الى مبررات تاريخية، فعندما تخلت تركيا عن كركوك والموصل، كانت قد وضعت اساسين لهما قابلية الاستمرار، هما الا يمثل العراق بالنسبة الى تركيا تهديداً، وان يتطور الاقتصاد العراقي والاقتصاد التركي داخل اطار من السلام المتبادل. وعند النظر من هذه الزاوية نجد ان العراق ليست دولة يمكن لتركيا ان تتجاهلها.
تم تنظيم الكتاب على شكل اقسام تناولت المفاهيم والمسائل الاساسية في هذا الموضوع، وتعريف بالاطار المفاهيمي والتاريخي الذي يشكل ارضية التحليل الاستراتيجي، وانطلاقاً من هذا الاطار المفاهيمي التاريخي بحث الاطار النظري لأسس العمق الاستراتيجي التي شكلت اوضاع تركيا الخاصة.
وقدم الكتاب خلفية لموضوع القصور في النظرية الاستراتيجية التركية. فقد سعى الى ابراز الوسائل الاستراتيجية التي ستحقق تفعيل هذه الاسس ومجالات التطبيق التي تستند الى العمق التاريخي والجغرافي للسياسات الاقليمية. وعند تناول تركيا في اطار وصفي عام نجد انها تتمتع ببنية متجذرة قادرة على تحويل عناصر وامكانات المعطيات الثابتة، مثل التاريخ والجغرافية والسكان والثقافة الى قوة حقيقية وواقعية. بيد ان هذا الوضع رغم ما خلفه من مزايا كبرى من الناحية الاستراتيجية يشتمل ايضاً على مخاطر ملموسة.
وبحث الكتاب في تأثير الارث التاريخي على مقاييس السياسة الداخلية والخارجية التي توجه العلاقات الدولية. وعرض الكتاب الاطار النظري للتحليل الاستراتيجي، متناولاً ادوات المفاهيم والنظريات الاساسية التي تحقق الفهم والتفسير للعمق الجغرافي الذي يتوجه اليه التحليل الاستراتيجي بناء على مجموعة متسلسلة من العناصر الجيوسياسية. وفي هذا الاطار يتم توضيح كل ما يتعلق بالمناطق البرية القريبة والمناطق البحرية القريبة والمناطق القارية القريبة التي تم تطويرها في اطار مفاهيم جوهرية.
وناقش المؤلف خصائص المناطق البحرية القريبة والمناطق البرية القريبة والمناطق القارية القريبة لتركيا والمعاني الاستراتيجية الجديدة التي اكتسبتها هذه المناطق بعد تطورات الاوضاع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ومدى تأثيرها على السياسة الخارجية التركية. وضمن هذا التحليل سيعمل على تحديد العناصر الاساسية اللازمة لتطوير استراتيجية متناسقة ومنظمة بين المناطق الجغرافية المختلفة.
وطبق المؤلف في كتابه الاطار النظري في مجال السياسة الخارجية فقد تناول مواضيع تتعلق بحلف شمال الاطلسي ومنظمة التعاون والامن الاوروبي ومنظمة المؤتمر الاسلامي ومجموعة الدول الاسلامية والدول النامية… كأدوات استراتيجية اساسية يمكن لتركيا ان تستخدمها في تشكيل سياستها الخارجية.
ثم قيم المؤلف الواقع السياسي لكل من البلقان والشرق الاوسط واسيا الوسطى والاتحاد الاوروبي، والعمل على وضع الركائز الاساسية للسياسة الخارجية التي يجب ان تواكب التطورات المحتملة عن طريق رؤية عمق استراتيجي يستند الى تحليلات تاريخية وجغرافية.
*الكتاب- العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، تأليف- احمد داود اوغلو، ط1، مركز الجزيرة للدراسات (الدوحة) والدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، 2010، 646صفحة