23 ديسمبر، 2024 3:52 ص

موسيقى الروح في قصص سيرغي دوفلاتوف

موسيقى الروح في قصص سيرغي دوفلاتوف

اضطر العديد من الأدباء الروس الأحرار خلال الحقبة السوفيتية ، الى مغادرة وطنهم ، بعد اسقاط الجنسية السوفيتية عنهم ، أو تهديدهم بالاعتقال ، أو تضييق الخناق عليهم ، او حظر نشر اعمالهم . ومن هؤلاء سيرغي دوفلاتوف ( 1941-1990) الذي يعد ظاهرة فريدة في الأدبين الروسي والعالمي . وهو واحد من الادباء الروس الأكثر شهرة في الغرب ، الى جانب بوريس باسترناك ، والكساندر سولجنيتسن ، وجوزيف برودسكي .

عاش دوفلاتوف حياةً قصيرة ، ولكنها زاخرة بالأحداث الدراماتيكية . غيبه الموت ، وهو في ذروة نضجه الإبداعي . منع من النشر عندما كان يعيش في بلاده . ومنذ عام 1975 اخذ يرسل ما يكتبه من قصص الى المجلات الادبية الروسية الصادرة في المهجر ، مثل” كونتينيت ” و ” فريميا” ، . ما أثار غضب السلطات السوفيتية ، وادى الى فصله من اتحاد الصحفيين السوفيت .

أسباب الهجرة

كانت زوجة الكاتب ايلينا قد هاجرت بالفعل الى أمريكا عام 1978 مع ابنتهما كاترينا . ورفض دوفلاتوف في البداية مغادرة وطنه . وحاول اقناع زوجته بالعدول عن قرارها، ولكن دون جدوي . قالت ايلينا :

– لقد تعبت من الوقوف في طوابير من اجل جميع انواع السلع التافهة . تعبت من المشي في جوارب ممزقة . تعبت من أن أفرح بشراء نقانق اللحم البقري . ما الذي يعيقك عن السفر معي ؟. البتولا ؟

– كلا . لا أهتم بالبتولا على الاطلاق

– اذن ، لماذا ؟

– اللغة . في اللغة الأجنبية نفقد ثمانين بالمائة من هويتنا . نفقد القدرة على المزاح والسخرية . هذا وحده يرعبني . قرائي هنا. من يحتاج قصصي هناك في شيكاغو ؟

– ومن يحتاجها هنا ؟

– الجميع . الناس لا يعرفون عني شيئا حتى الآن

– سيكون الأمر هكذا دائما

– أنت مخطئة

تنبأ دوفلاتوف بمجده الأدبي ، حتى وهو في حالة من اليأس التام . كأنه كان يسمع إشارات من المستقبل بأن قصصه مطلوبة من الجميع . وعندما جاء وقت الاعتراف به كاتبا متفردا كبيرا ، قارنه النقّاد الجادون بدوستويفسكي .

غادرت الزوجة والابنة الى أميركا . دوفلاتوف رافقهما الى المطار . وعاد الى بيته والحزن يعتصر قلبه ، فأغرق نفسه في شرب الفودكا . وفوق ذلك بدأ يتعرض الى مضايقات رجال الأمن السري بحجج واهية .

. في 18 يوليو عام 1878 تم القبض على دوفلاتوف في لينينغراد ، وادرك من خلال التحقيق معه ان امامه خياران لا ثالث لهما أما الهجرة أو السجن ، فاخنار الهجرة على مضض .

في 24 اغسطس عام 1978 غادر دوفلاتوف وطنه الى الأبد . وقد رافقته في سفره والدته نورا دوفلاتوفا .وتوجها في البداية الى فيينا في انتظار حصولهما على تأشيرة الدخول الأميركية . وتقول ايرا كوروبوفا ، صديقة دوفلاتوف في مذكراتها عن هذا اليوم :” في قاعة الانتظار بدا دوفلاتوف مرهقا جدا ، وبدت والدته حائرة ومرتبكة . كان دوفلاتوف الاخير في طابور المسافرين المتجهين الى الطائرة ، ويقف وراءه مباشرة رجل امن مسلح رافقه الى المطار . كل الركاب صعدوا الى الطائرة ، ماعدا دوفلاتوف، ورجل الأمن المسلح . فقد وقف دوفلاتوف بقامته المديدة في منتصف السلم ، وظهره الى مدخل الطائرة ورفع يديه الى الاعلى لتحية مودعيه . كان رجل الأمن يحاول برعونة دفع دوفلاتوف نحو مدخل الطائرة ، ولكن دون جدوى . رجل الأمن كان صغير الحجم ، ضئيلا أمام دوفلاتوف العملاق . ثم استدار دوفلاتوف وصعد الى الطائرة ، ووقف لحظة والتفت نحو الجمهور، رافعا يديه الى الأعلى “.

تحدث دوفلاتوف لاحقا عن اسباب هجرته قائلا : ” كنت خائفا من مثل هذه الخطوة الخطيرة ، التي لا رجعة فيها .إنه مثل الولادة من جديد ، حتى لو كانت الهجرة بمحض ارادتك “. وبعد عدة سنوات من هجرته ، وخلال لقاء صحفي مع مجلة ” سلوفا ” الروسية :” سأله الصحفي ، ان كان قراره بالهحرة صائبا ، ويستحق المخاطرة بمصيره ، فرد قائلاً :” كان الامر يستحق ذلك في الاقل لأن البقاء في البلاد بالنسبة لي وللكثيرين من أصدقائي لم يكن آمناً ، بالاضافة الى ذلك ، كنا انا واصدقائي محظورين من النشر ، خاصة ما كنا نكتبه بصدق وجدية . غادرت لأكون كاتباً ، وأصبحت كاتباً . كان عليّ أن اتخذ قرارا بشأن الاختيار بين السجن ونيويورك . كان الهدف الوحيد من هجرتي هو الحرية الابداعية ، ولم تكن لديّ أي أفكار أخرى ، ولم تكن لديّ أي شكاوى بشأن السلطات . لم اكن اشكو من شح الأغذية والملابس ، وطالما كانت المعكرونة تباع في المتاجر ، لم اكن افكر في لقمة العيش . لو سمحت الرقابة لي بالنشر داخل البلاد لما هاجرت ” .

صحيفة ” الأمريكي الجديد ”

في 26 فبراير 1979 وصل دوفلاتوف الى نيويورك ، وبذلك التم شمل عائلته ، حيث استقر في حي المهاجرين الروس في منطقة ” فورست هيلز ” وبعد فترة قصيرة من وصوله اسس مع عدد من أصدقئه الأدباء والصحفيين صحيفة اسبوعية ليبرالية باللغة الروسية وهي صحيفة ” الأمريكي الجديد “. وعلى الرغم من وجود صحف روسية عديدة في أميركا ، الا أن ” الأمريكي الجديد ” اصبحت خلال فترة وجيزة الصحيفة الروسية الأولى ، واوسعها انتشارا بين المهاجرين الروس ، الذين تدفقوا بالالوف الى الولايات المتحدة في اواخر السبعينات .

كانت الصحيفة تنشر موضوعات لصيقة بحياة هؤلاء المهاجرين ، الذين يعذبهم الحنين الى وطنهم الأم .

لم يتأقلم دوفلاتوف قط مع الحياة الأميركية ، ولم يكتب باللغة الانجليزية ، كما فعل فلاديمير نابوكوف وصديقه المقرب جوزيف برودسكي. وكانت تناقضات الحياة في أميركا وظواهرها الغريبة تثير دهشته وكتب يقول : ” أشعر كأنني في متجر العاب للاطفال . حيث اسمع اصوات اطلاق نار بشكل غير متوقع”.

عندما اطلق الشاب جون هينكلي النار على الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1981 ، لجذب انتباه امرأة غريبة . تصدرت صورة المجرم الصفحات الأولى لجميع الصحف الاميركية . هتف دوفلاتوف :” يا الهي ، قل لأميركا أن تفكر ! دعها تعقل ، متجاوزة تجربتنا الكابوسية ، دعها تكتسب الحكمة ، وتنجو من مأساة الاشتراكية . اغرس فيها غريزة الحفاظ على الذات . واجعلها تضع حدا للاهمال الكارثي “.

وفرت امريكا لدوفلاتوف حرية الابداع ، والحياة الكريمة بسخاء . وكان ممتناً لها على ذلك وقال في مقابلة صحفية :” ان الشخص لا يختار مهنة الكتابة ، بل هي تختاره . ولا يمكن للكاتب أن يتخيل وجوده من دون العملية الابداعية “.

أعمال دوفلاتوف

اعتاد دوفلاتوف ان يصدر رواية او مجموعة قصصية في السنة في امريكا ، واحيانا في أوروبا .وبلغ اجمالي عدد كتبه ،التي اصدرها في غضون اثني عشر عاما اكثر من 13 كتابا . وكانت تترجم الى الانجليزية على الفور . هذا الى جانب عمله في اذاعة ” صوت امريكا ” الناطقة بالروسية ، حيث كان يتحدث الى مواطنيه في الاتحاد السوفيتي عن الأدب الروسي ، بعيدا عن السياسة . ولا يمكن القاء اللوم على دوفلاتوف بسبب عمله في تلك الاذاعة ، لأن ذلك كان االسبيل الوحيد لأيصال صوته وآرائه في الأدب الى أبناء وطنه .

في أعمال دوفلاتوف يتشابك الواقع الأمريكي مع ذكريات الحياة في لينينغراد . لم يستطع دوفلاتوف الإنفصال عن ماضيه . ومعظم روائعه الأدبية لا علاقة لها بامريكا ، منها روايات “” المنطقة ” و ” الحقيبة ” , ” هضاب بوشكين ” و” أهلنا ” وغيرها. ولا توجد في هذه الأعمال أي حبكة تقريباً ، ولكننا نسمع فيها موسيقى روح دوفلاتوف . نثره الايقاعي الفريد ، وسحره الذكوري . ونحن نفهم لماذا وقعت النساء في حبه . ولماذا تحمّلت زوجته ” حياته البوهيمية “. فقد بدا جميع الرجال الآخرين مملين الى جانب دوفلاتوف .

افتتح دوفلاتوف صفحة جديدة من النثر الاعترافي ، والمحادثة المباشرة مع القارىْ . حيث يعطي المؤلف انطباعا بالبساطة ، ىويفهمه كل القراء من الغفير الى الوزير .

كان دوفلاتوف سعيدًا عندما كان الناس يعيدون سرد قصصه ، كما لو انها حدثت في الواقع فعلاً . ولكن قصصه لم تكن أبدا إستنساخا للواقع ، على الرغم من أن ابطاله يحملون اسماء شخوص من اصدقائه وزملائه في العمل ، وفي الوسط الأدبي .

بعد وفاة سيرغيه دوفلاتوف في 24 أغسطس عام 1990 في نيويورك ذاع صيته في روسيا على نحو مفاجيء ، وكنت ترى كتبه في أيدي القراء في كل مكان في موسكو ، والمدن الروسية الأخرى . وقد اثار ذلك دهشتي ، فهذه هي المرة الأولى التي يكتسح فيها كاتب الساحة الأدبية الروسية فجأة وبقوة ، ليصبح بين ليلة وضحاها أشهر كاتب في البلد بين ابناء جيله ، في حين أنه لم يكن معروفا بالأمس سوى في الولايات المتحدة الأميركية ، والى حد ما في أوروبا ، و لحلقة ضيقة من الأصدقاء في روسيا .

ترجمت أعمال دوفلاتوف الى أكثر من ثلاثين لغة في العالم . ويكفي أن نقول انه الكاتب الروسي الوحيد الذي نشرت له مجلة ” نيويوركر ” الثقافية المرموقة في امريكا عشر قصص خلال بضع سنوات . وهي مجلة النخب الأميركية المثقفة ، التي يحلم كل كاتب شاب واعد بالنشر فيها . ويمكن القول ان اغلب الكتّاب الأمريكيين الذين حصلوا على جائزة ” بوليتزر ” ، أو جائزة نوبل في الأدب ، نشروا أولى أعمالهم الأدبية في هذه المجلة تحديداً .

اسلوب دوفلاتوف

البساطة والوضوح ، والإيجاز الخالي من التزويق ، والجمل القصيرة ، والدقة في اختيار الكلمة المناسبة ، والإيقاع الفني ، من أهم سمات اسلوب دوفلاتوف . كل جملة من كتاباته تبدو بسيطة لأول وهلة ، ولكنها تحمل في الواقع فيضاً من المعلومات ، التي تعطي مساحة لخيال القارىْ ، ولا تعيق قدرته على الاستيعاب والادراك ، ولا تشتت انتباهه .

ومقولة موباسان تنطبق على كتابات دوفلاتوف أكثر من أي كاتب آخر : ” أياً كان الشيء الذي نريد قوله ، فإنه لا توجد إلا كلمة واحدة للتعبير عنه ، وفعل واحد للحديث عنه ، ونعت واحد لوصفه . علينا إذن البحث حتى نصل الى هذه الكلمة ، وهذا الفعل ، وهذا النعت ، وألا نكتفي أبداً بالتقريب ، وألا نلجأ الى الغش أو التزييف ، حتى لو كان للتجميل . ولا للمحاورات اللغوية لتجنب الصعوبات .

والسمة المميزة الأخرى لأسلوب دوفلاتوف هي قدرته الفائقة على السرد الممتع الساخر والدعابة المرحة ظاهريا ، ولكن ما ان يتأمل القارىْ هذه السخرية ، وتلك الدعابة المرحة حتى ينتابه حزن شفيف ، ويدرك بعمق عبثية الواقع السوفيتي ، ذلك الواقع الذي يشكل المضمون الرئيسي لمعظم أعمال الكاتب .

ذكرى دوفلاتوف

دوفلاتوف هو الكاتب الروسي الوحيد الذي اطلقت بلدية نيويورك اسمه على احدى شوارعها قريبا من المنزل الذي كان يقيم فيه . وفي وطنه اقيمت له عدة تماثيل في مدينته لينينغراد ، بطرسبورغ حالياً . وثمة جائزة أدبية بأسمه . ويقام في يوم مولده الموافق للثالث من سبتمبر من كل عام مهرجان دوفلاتوف في بطرسبورغ لمدة ثلاثة أيام ، والذي يتضمن فعاليات كثيرة : محاضرات عن حياته وأعماله الأدبية ، وعرض افلام سينمائية ومسرحيات عن حياته أو المستوحاة من رواياته وقصصه . وفعاليات اخرى كثيرة.

وليس من قبيل المصادفة ان الجيل الجديد من القراء الشباب الروس اطلقوا على دوفلاتوف اسم ” الكاتب المحبوب “. وهذا شرف لم يحظ به أي كاتب روسي آخر من جيله .