طريقة جديدة لجأ اليها أحذ باعة (الغاز) في منطقتنا ، وهي استخدام الموسيقى في مكبرات الصوت للترويج لبضاعته ، وأعترف أن أختياراته للموسيقى موفّقة جدا بشكل يتلائم مع وقت الصباح ، فهي هادئة ، عَذبة ، مرهَفة ، حالمة ، وكأنه عصفورٌ يغرّدُ خارج السّرب ، السرب المبتلي بالفن السّقيم ، وموجة الأغاني المبتذلة والسّخيفة والرائجة هذه الأيام ، موسيقاه تنفضُ الصّدأُ والغبارُ عن أوتارِالنفس ، المختنقة بنسيج عناكب الزمن وهي تنوءُ تحت رُكام الهموم التي صارت جُزأً من هويتِنا ، فأنا حزين ، إذن أنا عراقي !.
يجوب هذا البائع محلات بغداد الجديدة والغدير ، وقد عرفتُ أنّ الكثيرَ من باعة الغاز قد حذوا حذوَه ، بعد أن كانوا يعلنون عن وجودهم بالمزامير المنفّرة ، أو الدقّ المزعج على قناني الغاز ، كصوت الانذار ، فكنت أهرع إليهم بدافع الحاجة مُستَـفزا، والأن أهرع اليه بدافع الأحساس بالجمال ، بل الأمتنان ، تذكّرني موسيقاه بوَردةٍ نَبَتتْ وسط الاسفلت ، او بزرعٍ اخضرٍ يتحدى حاجز الأسمنت القبيح ، بقوةِ حياتِه بمدّ بُرعُمَهُ من شرخٍ فيه .
أراه وهو يتهادى بموسيقاهُ التي يتردّدُ صداها في الأزقّة الفقيرة بسيارته (الكيا) ، شاقا طريقه وسط لافتات الأنتخابات وكأنه يسخر منهم بأدبٍ وصِدق وكياسة ، ولسان حاله يقول (كذبتم ولو صَدَقتم ، مَنْ مِنّا يفيد المواطنَ فعلا لا قولا كدأبِكم ، أنا الذي يمتّع اسماعه فأبعث فيه الأملَ الذي سلبتموه دون لافتةٍ أو ملصق ، أنا الذي يجعله ينسى الألمَ ولو الى حين قبل أن أفيده بقنينة غاز ، أنا الذي يحمل شيءٌ من أوزار همومه على سيارتي ، وأنتم طالما أثقلتم كاهله) .
خوفي على هؤلاء الذين يعيشون بعَرَقِهِم وما أندرهم ، من أن يهدر (الظلاميون) دمهم ، بحجة أن الموسيقى حرام ، رجسٌ من عمل الشيطان ، فمتى نستبدل صوت الرصاص بالموسيقى ؟ ، متى يكون الأحساس بالجمال ، وما ينتج عن الجمال ، والله جميلٌ يُحبُّ الجمال ، معيارا لثقافتنا ؟.