عندما كتب الروائي السوداني الراحل روايته الشهيرة ( موسم الهجرة الى الشمال ) كان يعلم ان اللغة التي كتب فيها روايته والتي نقل فحيها فحولة الشرق الى انوثة الغرب ، أن هذه البلاد مواسمها وهجرتها لاتحصى .
فبعد روايته بدأت مواسم الهجرة الى سيناء وبارليف وكامب ديفيد وعبادان والكويت ومنهاتن وقندهار وقوارب الهجرة وليالي الحلمية وميس الريم ومواسم اخرى كثيرة .
ويبدو اننا في العراق أخذنا حصة كافية من هذه المواسم منذ أن قتل الملك الهاشمي الشاب فيصل الثاني في قصره صبيحة 14 تموز والى اليوم .
ولكل موسم صورته التي غالبا ما تقترن بالدم ، فحتى موسم الهجرة الى القصيدة في العراق يصاحبه سعال دموي من رئة الشاعر السياب.
أما مواسمنا الاخرى فأغلبها مسيسة وانقلابات وحروب وبطاقات تموين ودفاتر اسواق مركزية بسبب الحصار على العراق ، لتنتهي بموسم اسمه ( موسم الهجرة الى المنطقة الخضراء ) حيث تحصن الحكام الجدد وبدأوا يديرون دفة الحكم بالهاجس الخفي المبني على عقيدة الغرور والاعتكاف والنهب.
لاادري كيف ترضى أن تحكم من وراء السور ، ولا ترى وزيرك او رئيسك او حتى من هو بدرجة مدير عام يتسوق في الاسواق بطوله وعرضه كما يفعل رؤساء حكومات الاتحاد الاوربي .
كلهم معزلون في قلق الوهم من الاخر ، والاخر هنا ، هو الأنسان العراقي ، الطيب والبسيط واعتقد انه يملك اكبر ( حوصلة ) في هذا العالم ليتحمل كل هذا الذي يراه.
عشنا مواسم هجرات كثيرة ، الهجرة من نينوى يوم سقوطها ، والهجرة من العراق الى اوربا واستراليا يوم صارت البطالة فيه موديلا والخوف من الخطف والكواتم ، وهجرة الماء والطيور من الاهوار بسبب شحة مياه النهرين ، وهجرة اموال البنك المركزي في المضاربات والمزاد وتبيض الاموال. هجرة النعوش الى مقابر النجف والكرخ وبقية المقابر بسبب المفخخات واحزمة الارهاب الناسفة . حتى اصبحت تلك المواسم موديلات ترتبط بالحدث اليومي .والاسبوعي كما في موسم الهجرة الى شارع المتنبي ونصب الحرية في كل جمعة. واخيرا الى الهجرة الى خانة القلق والموازنة حين شحت الموارد مع انخفاض اسعار النفط ونزولها الى اقل من ثلاثين دولارا.
تلك المواسم في صورتها التحليلية والنفسية أنما هي واحدة من صور الخراب الروحي والمجتمعي والاقتصادي لبلد عاش وعلى ارضه ارقى واقدم الحضارات وفي بواطن تلك الارض توجد اكثر الثروات في هذا الخليقة ، النفط والفوسفات والكبريت والزئبق والنخيل .
والآن كل هذا الخير يحزم حقائبه ليهاجر مع الطائرات الى بنوك وارصدة بانت هذه الايام ملامح فضيحتها عبر موسم جديد قديم في المشهد العراقي هو موسم الهجرة الى التسقيط .
واول من بدأ يستخدمه في هذه المرحلة هي الولايات المتحدة ، ففي خزنة السفير الامريكي في بغداد ملفات وجرودات بالاسماء والارقام والتصاوير لكل واحد من ساسة العراق كان لديه بسطية في شوارع قم او يعيش غلى اعانة دائرة ابلدية (السوسيال ) في مدن وكوبنهاكن وامستردام .اول روائح هذا التسقيط بدا مع فضيحة جولة التراخيص
والتحقيق الذي أجراه موقعا “فبرفاكس ميديا” و”هافنتغون بوست”، ونشر الأربعاء 30 مارس، أشار إلى عدد من الأسماء البارزة في العراق ذات العلاقة المباشرة بأكبر رشوة شهدها العالم في فضيحة تاريخية للعراق الذي مثل ساحة لهذا الفساد تحت غطاء عقود نفطية شملت مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى
ومن أبرز الشخصيات التي تناولها التقرير “الفضيحة” وزير التعليم العالي حسين الشهرستاني، الذي كان وزيرا للنفط في الحكومة السابقة ونائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة في الدورة التي قبله ومعه العديد من المسؤولين في وزارة النفط والوسطاء والتجار.
وغير تلك الفضيحة ستكون هناك فضائح اخرى ساحتها الداخل والخارج وربما اتهام النائب مثال الالوسي للسيد اياد علاوي بتحويل اكثر من مليار دولار الى عمان بأمر منه بوسيط هو المصرفي سعد بُنية .
وكذلك ظهور اسم علاوي ضمن قائمة بنما التي تتحدث عن رؤساء واثرياء يهربون بأموالهم خارج بلدانهم ، وربما في القريب ستبدا عملية التسقيط لاسماء يعتقد انها استولت على قصور صدام وابنية وعقارات الدولة في اماكن غالية داخل الهاصمة والمدن الاخرى.
التسقيط اليوم واحد من مواسم ايامنا ، ويبقى العراقيون ضحية لكل ما يجري .وتبقى احلامهم وحناجرهم ومواسمهم الى الحياة الكريمة اقوى من السراق.