راهن البعض على المحاولات والضغوط التي كانت تمارس على الكورد قبل إجراء الاستفتاء على الإستقلال. كما راهن آخرون على حسابات الصف الكوردي غير الموحّد تجاه عملية الاستفتاء، كذلك تأثيرات الدول الإقليمية على أحزاب كوردستانية ترتبط معها بعلاقات يمكن أن توصف بالمتينة. لكن الجميع أصيبوا بخيبة أمل عندما فشلت كل المحاولات والحسابات في ثني الكوردستانيين وتراجعهم عن قرار إتخذوه، وذلك لأن البديل الذي عرض عليهم لم يُشكّل حلاً مقبولاً أو حتى وسطاً، ولأنهم قد وصلوا الى قناعة إستحالة الشراكة في ظل دولة فاشلة وفق كل مقاييس الفشل.
حسابات البيدر، أعني بها بعد الإستفتاء فاقت حسابات الحقل، وأعني قبل الذهاب إلى الاستفتاء، والتجاوب الشعبي من الكوردستانيين قاطبة، وضع الجميع أمام خيار واحد، وهو إلتقاط رسالة الإستفتاء والإنطلاق نحو أفق جديد وعدم العودة إلى الوراء. وكل من يريد غير ذلك، إما إنه لايفهم حقائق الأمور الواضحة والصريحة، أو لا يريد قراءة الأمر الواقع ومواجهة المرحلة حسب وجهة نظر منطقية.
الرافضون الذين لايؤمنون بأي حق ديمقراطي ولايعترفون بالوسائل السلمية للتعبير عن الرأي، والمصرون على قمع الكورد، يدعون الرئيس بارزاني لإلغاء نتائج الاستفتاء الذي صوت له بـ 93٪ بنعم للاستقلال وللحرية والديمقراطية. ويحاولون التسويف، بتهديدات متنوعة وقرارات إرتجالية وبأعذار متضاربة، ومن مواقع كثيرة، ويبادلون الكوردستانيين العداء الصريح، طبعاً، دون ذكر مساوىء ومضار التحشيد ضد الكورد، ودون التحري عن مآرب التحفظات والأسباب الكامنة وراء المواقف الدولية الحالية.
في عالم اليوم، الكل يعمل وفق مصالحه الخاصة، ووفق المنطق ينبغي التشكيك بقوة في كل الممارسات العدائية، والإعراب عن الإرتياح تجاه المواقف المعتدلة والعقلانية، ووضعها في سلم أولويات التفكر والتساؤل. ومن بين تلك المواقف هو الموقف الروسي المعلن حتى الأن، والذي وصفه رئيس إقليم كوردستان، السيد مسعود البارزاني، في مقابلة مع القسم الكوردي في إذاعة صوت أمريكا، بأنه (مشرف جداً جداً). حيث كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد قال قبل الإستفتاء : (إننا ننظر إلى مسألة الاستفتاء الكوردي على أنها تعبير عن رغبة الشعب الكوردي، وما أعرفه هو أن أغلب سكان الإقليم الكوردي يدعمون إجراء هذا الاستفتاء). وبعد إجراء الإستفتاء أكدت وزارة الخارجية الروسية، إحترامها (للتطلعات القومية للشعب الكوردي بتأسيس دولة). وأثناء زيارة بوتين إلى أنقرة ولقاءه نظيره التركي، رجب أردوغان تناول المسألة وفق الصيغة المعلنة من الاستفتاء في موسكو، وليس كما تشتهي أنقرة. ورداً على الصحفيين، قطع بوتين الشك باليقين، وقال: (موقفنا معلن من قبل وزارة الخارجية). بعدها أكد المتحدث بإسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، ثبات موقف بلاده من إستفتاء كوردستان، وعدم تغيره بعد الزيارة التي أجراها الرئيس بوتين إلى تركيا.
هذه الرسالة، إما لم يفهمها السيد أوردغان، أو إنه فهمها ولكن حاول تجاهلها، لذلك توجه الى طهران، التي تحولت هى الأخرى مع أنقرة وبغداد بين ليلة وضحاها، بقدرة قادر إلى دعاة مذعورين لفرض الحصار والعقوبات الإقتصادية والسياسية على شعب كوردستان الذي عبر عن إرادته بطريقة ديمقراطية حضارية.
في يوم وصول أوردغان الى طهران، لتنسيق المواقف تجاه كوردستان. بعث الروس أكثر من رسالة الى الإيرانيين والأتراك ولغيرهم، إذ قال الرئيس بوتين خلال كلمة له في الجلسة العامة لمنتدى أسبوع الطاقة الروسي، (أن الحظر النفطي ضد كوردستان، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط في العالم، وهو أمر قد لا يرغب فيه الجميع). وقال: (موسكو لا تتدخل في مسألة كوردستان، وتصرفاتنا تهدف إلى عدم اشتعال الموقف، وموسكو لا تقوم باستفزاز أحد، ونحن لدينا علاقات طيبة مع الكورد، ونحاول دعوتهم للحوار). مؤكدا، (لذلك فإن تصريحاتنا حذرة جدا. وموجهة ليس نحو التأزيم، بل لتصحيح الوضع، وتهدف الى إيجاد سبيل للتواصل حتى في أصعب حالات النزاع، والتعاون للبحث عن خيارات مقبولة للجميع). أما رئيس الهيئة التنفيذية لشركة روزنفت الروسية، إيغور إيفانوفيج سيجين، فقد أكد : (إننا نرى مستقبلاً زاهراً في كوردستان، ولن تعرقل أي جهة أعمالنا هناك، وسنستمر في أعمالنا هناك بثقة. وقال: نستعد للشروع بأعمالنا فعلياً في كوردستان، لكي تدخل مشاريعنا حيز التنفيذ. أعمالنا تسير بشكل جيد، وكل شيء يمضي بحسب الخطط والجداول المحددة). من جانبه أعلن وزير الطاقة الروسي، ألسكندر نوفاك، (أن شركة غازبروم تواصل أعمالها وتنفيذ مشاريعها في كوردستان وستستمر في ذلك مع الشركات النفطية الأخرى).
هذه المواقف المشرفة لموسكو، تقدم إشارات تعتمد على القرارات القوية والعقل السياسي في لحظات التحولات التاريخية الكبرى. وتشير الى أنه رغم التهديد والوعيد ، أصبح حدث الإستفتاء واقعا لابد من التعامل معه بإسلوب البحث عن الحلول المناسبة لكافة المشكلات و القضايا المصيرية، وإحقاق الحقوق المهدورة بسلام وأمان، ومنع عودة الخيبة والخسارة وتجنب الويلات و تكرار المآسي. والإبتعاد عن خوض المزايدات السياسية وعدم اللجوء الى التعنت و العناد في التعامل مع ماحدث بإستعلاء، والإبتعاد عن فرض السطوة والبغض و الكراهية و الخلافات القومية و المذهبية. رسائل موسكو واضحة والعاقل يفهمها..