في 21 سبتمبر / أيلول الماضي نشرت صحيفة نيويورك دايلي نيوز الأمريكية مقالا أكدت فيه على ان تنظيم داعش لايزال قويا بمافيه الكفاية رغم مرور عام ونيف على بدء الحملة العسكرية الغربية ضد معاقله والتي تخللتها أكثر من 7000 غارة جوية وأنفقت فيها الولايات المتحدة 10 ملايين دولار يوميا وعزت الصحيفة ذلك الصمود لأسباب عديدة منها براعة التنظيم في تجديد صفوف مقاتليه والحسابات الخاصة لحكومتي بغداد ودمشق المتعلقة بكسب ود السكان المحليين القابعين تحت حكمه ورغم خسارة التنظيم فعلا لخمس أراضيه (غالبية سكانها ليسوا من العرب السنة) الا انه بالمقابل نجح في الاستيلاء على مزيد من المناطق السنية في العراق وسوريا وعلى رأسها مدينتي الرمادي وتدمر (حسب الصحيفة) .
هذا التقييم لايبدو مفاجئا لكل المتابعين ويبدو مطابقا لرؤية القادة العسكريين الأمريكيين لصعوبة الواقع الميداني ، فاستراتيجية واشنطن العسكرية والقائمة على الغارات الجوية وتدريب قوات الجيش العراقي ومايسمى بالمعارضة السورية المعتدلة لفظت أنفاسها الأخيرة بتسليم مقاتلي هذه المعارضة سلاحهم وانضمامهم لجبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) وبقاء قدرة الجيش العراقي دون المستوى رغم الجهود الأمريكية لعدم بناءه على أسس سليمة منذ العام 2003 ووجود قوى أخرى طغت عليه مثل الحشد والعشائر والبيشمركة وأخيرا الحرس الوطني والذي لايزال قانونه قيد المناقشات البرلمانية وهو ما أدى بنهاية المطاف لتعقيد الشق البري في الخطة العسكرية الأمريكية بمواجهة التنظيم المتطرف وما نتج عنه من فقدان غاراتها الجوية لفعاليتها اللازمة (بانتظار ماستسفر عنه معركة الرمادي المرتقبة) ، اضافة لرفض ادارة أوباما ارسال قوات برية على نطاق واسع للحيلولة دون اعادة التورط في المستنقع العراقي فضلا عن تناقض الرؤية الأمريكية وصعوبة تطبيقها عمليا في حرب واحدة تدور رحاها على جبهتين والمتمثلة بدعم حكومة بغداد والسعي لاطاحة نظام دمشق في آن واحد رغم
الدعم الايراني لكليهما !! كل هذه العوامل أسهمت في ارباك الموقف الأمريكي واضعاف استراتيجيته العسكرية وخلق ثغرات نفذ منها الدب الروسي والذي مثلت الحرب على الارهاب الجسر الذي عاد من خلاله للمنطقة لاعادة احياء الأحلام القديمة بالوصول للمياه الدافئة .
مبدئيا روسيا ليست جديدة على المنطقة ولها تحالفات قديمة مع بعض دولها فهي حليفة عبدالناصر وصدام والقذافي وحافظ الأسد واليمن الجنوبي وذات علاقات مميزة مع ايران بعد العام 1979 ومن هنا تبدو غرابة عاصفة الاستهجان للدور الروسي الصادرة من بعض الدول الخليجية ذات الميول الأمريكية تاريخيا !! حيث كانت منطقة الشرق الأوسط منذ النصف الثاني من القرن الماضي ولغاية يومنا هذا مسرحا لصراعات سياسية وحروب عسكرية بين محاور اقليمية مدعومة بارادات دولية.
ان العودة الروسية للمنطقة جاءت لتعويض خسائر موسكو المتتالية في المنطقة عقب الغزو الأمريكي للعراق والربيع العربي كنتيجة طبيعية لضعفها السياسي والأقتصادي فكانت داعش وضعف ادارة الرئيس أوباما وترددها في اتخاذ القرارات الحاسمة بوابة مناسبة لموسكو لانقاذ “سوريا الأسد” أخر معاقلها في المنطقة والسعي للتمدد والتأثير في ملفاتها الساخنة الأخرى لاحقا .
لقد شكل عدم تجاوب تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية بايجابية مع المبادرة الروسية الرامية لتشكيل تحالف اقليمي ضد الارهاب يضم نظام الأسد واستيلاء جيش الفتح على محافظة أدلب وتهديده المباشر لمدينة اللاذقية (قلب الساحل السوري) حافزا كافيا لموسكو لتحقيق حلم العودة والدفاع عن موطئ قدمها الأخير باشهار تحديها الثاني بوجه القوى الغربية (بعد أوكرانيا) والدفع بالسلاح والعتاد والمستشارين والجنود لسوريا وهو مافاجئ الغرب العاجز وأضطره للرضوخ لسياسة الأمر الواقع والسير خلف الرؤية الروسية باعتماد محاربة الارهاب كأولوية مع استمرار الخلاف بشأن بقاء الرئيس الأسد خلال المرحلة الانتقالية رغم ابداء بعض الأطراف الغربية مرونة في هذا السياق ! وذلك بعد فشل كافة الحلول السياسية والعسكرية الموجودة في الجعبة الأمريكية والغربية ، ناهيك عن عدم وجود استعداد فعلي لدى أوباما لخوض تجربة الحرب الباردة مجددا ووجود اجماع دولي على تدارك الأثار السلبية الناجمة عن أزمة الهجرة الى القارة العجوز .
لقد بات واضحا بأن داعش ستكون سببا فعليا في اعادة رسم خريطة المنطقة وهو ما أدركته روسيا مؤخرا ليكون تواجدها نابعا من اصرارها على أن يكون لها نصيب من الكعكة عقب القضاء على العدو المشترك على شاكلة ماحدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
عراقيا تأتي الرياح بماتشتهيه سفن بغداد ، فالعراق لن يكون مضطرا للتخيير بين واشنطن وموسكو كداعم له في حربه على الارهاب بعد اتفاق الدولتين على توحيد جهودهما بهذا الخصوص وهو مايجعل اعادة تحرير الأراضي المحتلة قاب قوسين أو أدنى مع ضرورة عدم اغفال حقيقتين مهمتين الأولى بأن دمشق تمثل الأولوية
لموسكو لا بغداد التي سيقتصر الدعم الروسي لها في المجالات العسكرية والأمنية واللوجستية دون السعي للولوج في دهاليزها السياسية الصعبة والثانية تفيد بأن تلاقي مصالح مختلف الأطراف الاقليمية والدولية على محاربة الارهاب ومايستتبعه ذلك بالضرورة من التعاون العسكري فيمابينها سيعقبه حتما اتفاقات سياسية تفضي لبدء المرحلة الانتقالية في سوريا و تغير المشهد العراقي برمته بعد التحرير (لمنع تكرار الأخطاء السابقة) بالصورة التي تتضمن اعادة تقاسم النفوذ بين طهران وواشنطن بالتزامن مع تواصل الاستعدادات لبناء كيان سني منظم ومدعوم أمريكيا وتركيا وخليجيا سيعيد التوازن السياسي ويدخل البلاد في أتون مرحلة جديدة فالأيام القادمة حافلة بالكثير .