تابعت باهتمام برنامج قناة الجزيرة الاستقصائي( المتحري) عن الصراع الدموي بين الاشتراكيين في جنوب اليمن، وأودى بحياة غالبية القيادة
” التاريخية” للقوميين الذين تحولوا بين عشية وضحاها الى ماركسيين لينينين؛ قال صحفي مشارك في البرنامج إنهم كانوا يأخذون مقولات لينين على انها فتاوى.
لفت نظري، ان التحقيق الاستقصائي وفق ما ذكر معد البرنامج،جمال المليكي، واجه صعوبة في استنطاق من بقي على قيد الحياة، وكانوا شهدوا او شاركوا في مجزرة إبادة اشتراكيي اليمن.
هذه الظاهرة تواجه الصحافة الاستقصائية العربية، بفعل إحجام الشهود عن ذكر الحقائق، او عدم الاكتراث باهمية التوثيق التأريخي في الزمن الصفري.
لجأ البرنامج الى إعترافات قديمة لعلي سالم البيض، أحد القلائل الاحياء من قادة اليمن القدامى ؛ فيها رواية مبتسرة تعكس وجهة نظره لما يعرف بانقلاب 13 يناير/كانون الثاني 1986 و قبل ذلك مقتل الرئيس الجنوبي ، سالم ربيع علي وتصفية أبرز أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني. وكذلك مقتل القائد الاشتراكي عبد الفتاح إسماعيل خلال المواجهات آلتي أعقبت المجزرة.
آما شهادة الرئيس ، علي ناصر محمد، واعتبرها ” المتحري” سبقا لان السياسي اليمني المتقاعد، لم يتحدث علنا عن احداث 13 يناير 1986 قبلا ، فانها لم تقدم تفاصيل وافية عن تلك الحقبة ،عدا عن انها تعكس رؤية منحازة لاحد ابرز صانعي الاحداث ، المسؤول مباشرة عن التطورات التي عصفت باليمن جنوبا وشمالا على مدى اكثر من عقدين من حكم ” الماركسيين “.
ولم يقدم علي ناصر محمد رواية متكاملة عن المجزرة على خلفية الغموض القائم الى اليوم حول مقتل مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني عبد الفتاح اسماعيل، ودور محمد في الاعداد لمجزرة عدن.
واذا كان المتحري واجه ربما رفضا بالتحدث الى البرنامج من شخصيات يمنية لا تكن ودا لقناة الجزيرة ولقطر؛ فقد كان أمام معد البرنامج خيارات بديلة لا تعدمها الخبرات المتراكمة لدى منتجي القناة . منها استطلاع آراء عدد من الصحفيين الذين غطوا المجزرة، ولاحقوا لسنوات مصائر الضحايا والجلادين.
لقد إستخدم المتحري، وثائق بريطانية واخرى أميركية، والتقى خبراء ومؤرخين غربيين بالشأن اليمني .
بيد ان المثير للتساؤل، غياب شهادات ووثائق سوفيتية عن تلك الأحداث التي كان لموسكو، الدور المفصلي،و غالبا الحاسم في مسارها ونهاياتها .
لا ندري ما اذا كان المتحري واجه صعوبة في إجراء مقابلات مع مختصين او مؤرخين من روسيا؛ كانوا عملوا سنوات طويلة في جنوب وشمال اليمن . وساهم بعضهم في تكوين صورة اليمن المعاصر بشطريه منذ اطاحة نظام الامامة.
المفارقة ان مستعربين علّموا اليمنيين الماركسية اللينينية؛ وروجوا للنظام السوفيتي بين صفوف القوميين اليمنيين، وغيروا توجهاتهم؛ وعلى حد قول اليمنيين الظرفاء ” ورطونا” كانوا في مقدمة منتقدي النظرية والنظام السوفيتي، وشاركوا بعد انفراط عقد الدولة السوفيتية في نشاطات سياسية واجتماعية وندوات فكرية لم تبق حجرا على حجر في البناء النظري لماركس و انجلز ولينين؛ الذي تهدم فِي عدن قبل موسكو؛ بالقنابل والصواريخ وأودى بحياة آلاف اليمنيين، وما تزال المأساة اليمنية تتوالى فصولها الى اليوم.
كان يمكن للمتحري ان يضع المشاهد في صورة بانورامية عن المأساة ؛ لو انه استشرف راي الخبراء الروس بشؤون اليمن السعيد الذي كان الاخصائيون السوفيت يتسابقون للعمل في مؤسساته الفتية، طمعا برواتب العملات الصعبة، حين كان سعر صرف الروبل السوفيتي في البنك، اكثر باربعين بالمئة من سعر الدولار؛ فيما يباع الأخضر الاميركي بخمس روبلات في السوق الموازية.
ان المكتبة الروسية والمعاهد الاكاديمية المعنية، لا تخلو من مدونات ودراسات عن اليمن ما بعد الإمامة وعن الدور السوفيتي في بناء اليمن الاشتراكي الذي افنت الصراعات على كرسي الحكم، رهطا كبيرا من قادته وعشرات الالوف من بناته وابنائه، وانتهت البلاد الى الوضع الكارثي اليوم.
لم تتح لنا فرصة زيارة اليمن بشطريه في سنوات النار، حين كانت عدن ملاذا للعراقيين الفارين من نظام صدام حسين، واولئك الباحثين عن فرص عمل بعد تخرجهم في معاهد وجامعات الدول الاشتراكية وفي المقدمة الجامعات السوفيتية.
ولحد علمنا فان بينهم كتاب وصحفيون لا ندري ما اذا كانوا نشروا مدونات عن تلك السنوات الملتهبة. وتحتل مقالات وكتابات الصحفي الاردني شاكر الجوهري موقع الصدارة في تدوين تلك الحقبة الى اليوم.
إضافة الى مقالات تحليلية للكاتب لفيصل جلول ؛ الى جانب مقالات ودراسات يمنية، بحاجة الى جهد علمي لتنقيتها من المواقف المسبقة والعصبيات الايديولوجية والقبلية آلتي امتزجت في خليط عجيب مع ماركسية شعبوية كارتونية؛ لكنها تحمل زعانف سامة أصابت في اليمن وشعبه الكريم الطيب مقتلا.