23 ديسمبر، 2024 2:06 ص

موروثنا الاسلامي .. وجدلية المقدس

موروثنا الاسلامي .. وجدلية المقدس

من المفارقات التي وقعت فيها الامة الاسلامية ان المنظومة الفكرية للعقل الجمعي لها لاتستطيع التمييز بين الاسلام كدين ونظرية ودستور انساني سماوي وبين الفعل والحراك السياسي والاجتماعي لبعض من عاصروا النبي (ص) الذين انتسبوا للاسلام بشكل او باخر ..فأصبح المساس بأحدهم يعني الاساءة للدين نفسه ، وهذا الامر قد عانى منه الكثيرين من الكتاب المعاصرين عندما تعرضوا لبعض هؤلاء الاشخاص وسلطوا الضوء عليهم ومادتهم الاساس مصادر المسلمين أنفسهم …حيث أقاموا المتخلفين والمتخندقين عليهم الدنيا ولم يقعدوها وأتهموهم بالارتداد عن الاسلام ، وهذا دأب العقلية المتطرفة في عالمنا الاسلامي التي تمارس لعبة النعامة بوضع رأسها في التراب خوفاً من مواجهة الحقيقة ولاتستطيع ان تسمي الاشياء بمسمياتها ، وقد انعكس هذا الامر على السلوك الفرد فيه وأزدواجية الشخصية والمعايير لديه مما سبب الجهل والتخلف للامة عبر القرون الماضية ..وقد يسأل سائل ما هي الجدوى من أثارة مثل هكذا مواضيع ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين وبيننا وبين مايطرح اربعة عشر قرن..؟ ..والجواب عن هذا السؤال هو اننا أمة لازالت مكبلة  بتراثها  وتقتات على أجترار ماضيها بكل مافيه غثه وسمينه ، صالحه وطالحه وتعتبر كل ما فيه في مقام القدسية والخطوط الحمراء دون تميز مما شكل حالة من الضبابية وعدم وضوح الهدف والرؤية للكثير،  وما نشهده الان من الجهل والتخلف عن ركب الحضارة والصراع الاثني الغير مجدي  في عالمنا الاسلامي .. وهنا سوف أسلط الضوء على شخصية يقدسها بعض المسلمين على الرغم من ان التاريخ الاسلامي نفسه يقول عنها  انها غير مقدسة بل وخارجة عن جادة الحق والصواب ولا اعلم ما هي الفائدة المرجوة من استماتة البعض بالدفاع عنها ومحاولة تلميع صورتها وأيهام الناس وتضليلهم وأعتبارها قدوة للمسلمين ..وهي في الحقيقة شخصية قد أنكر فعلها النبي(ص) والصحابة ..انه خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي ، الذي أسلم بعد صلح الحديبية عام 6 هجرية وتوفي 21 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب (رض)..عن عمر خمسون عام ..شارك في بعض الغزوات  في حياة النبي (ص)..ومنها غزوة بني جذيمة وهي احدى قبائل الجزيرة العربية وقد قام بمجزرة بهذه الغزوة لاسباب شخصية ليس للاسلام علاقة  فيها ..كما يذكر البخاري في صحيحة (باب رد اجتهاد الامام اذا خالف الحق)..رواية عبد الله بن عمر ..بعث رسول الله (ص) خالداً الى بني جذيمة فدعاهم الى الاسلام فلم يحسنوا ان يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا ..صبأنا ..فقتل منهم واسر البقية ودفع لكل رجل منا اسير وفي اليوم التالي امر كل منا بقتل اسيره فرفضت فعل ذلك  الكلام لعبد الله بن عمر.. وشكوت الى رسول الله (ص) فقال (اللهم اني بريئ مما فعل خالد ).

ويذكر الطبري في تاريخه ..ان رسول الله قد دفع الى بني جذيمة دية قتلاهم على انهم مسلمين ويروي السبب الذي دفع خالد لفعل هذا الامر الشنيع البعيد عن اخلاق الاسلام وهو ان بني جذيمة  كانوا قد قتلوا عمه فاكه بن المغيرة في الجاهلية وأراد خالد ان يدرك ثأره بأسم لاسلام اوتحت مظلته..في خلافة ابي بكر (رض)..امتنع مالك بن نويرة التميمي عن أعطاء الزكاة ، لانه عندما اسلم في عهد النبي (ص) رجع الى قومه فأسلموا على أسلامه كونه مضرب المثل في الشجاعة والمرؤة والكرم فكلفه النبي (ص) في قبض زكاة قومه بني يربوع وتوزيعها على فقرائهم ..كما جاء في (البداية والنهاية لابن كثير الجزء السادس) ..فأرسل ابي بكر (رض) خالداً في جيش ليستفهم الامر وكان معه عبد الله بن عمر وابي قتادة ..فأسرمالكاً هو وقومه بعد ان خرج مالك وقومه لاستقبالهم بلا سلاح ..فقتلهم وامر برأس مالك بن نويرة فجعل بين حجرين وطبخ على النار تعمل فيه الى ان نضج لحم القدر ولم تنضج راس مالك لكثرة الشعر فيها ، وفي رواية (المسعودي في مروج الذهب) ..طبخت الرؤوس فنضجت الا رأس مالك لانها كثيرة الشعر  ،ثم زنى بأمرأة مالك كما يروي (ابن حجر العسقلاني في الاصابة الجزء الخامس) ..ان خالدا رأى أمراة مالك وكانت فائقة الجمال فقال مالك بعد لامراته قتلتيني ..ويعني سأقتل بسببك ..وروى (الطبري في تاريخ الامم والملوك الجزء الثالث) ..دخل خالد الى مسجد رسول الله(ص) وعليه قباء وقد غرز السهام في عمامته ، فأتاه عمر بن الخطاب (رض)..فكسر السهام وقال قتلت أمرء مسلم ثم نزوت على امراته والله لارجمنك بأحجارك ..فسكت خالد ولم يجيب..وبعدها رد ابي بكر(رض) سبي بني تميم وأمر خالد أن يفارق زوجة مالك بن نويرة ..في بداية خلافة ابي بكر (رض) ارسل خالد بن الوليد الى العراق لقتال القبائل العربية من اهل الحيرة والتي كانت تدين بالديانة المسيحية ..فقاتلهم في اليس ، وهو فرع من نهر الفرات فأسر خمسة الاف رجل منهم ..وقام بسد النهر وامر بقطع رؤوس الاسرى جميعهم حتى امتلئ النهر دماً ورؤوس .. وأطلق بعض المؤرخين على هذه الغزوة ..بغزوة (نهر الدم)..كما جاء في (الكامل في التاريخ لابن الاثير) و(تاريخ الامم والملوك للطبري الجزء الثاني)…

من يقرئ هذه الصفحات الغير مشرفة من تاريخنا سوف يجد انه لا غرابة مما نراه الان من ثقافة القتل وقطع  الرؤوس وهذه السادية الوحشية التي تفشت في عالمنا الاسلامي حتى وصلت الى لعب كرة القدم في الرؤس البشرية ، فهؤلاء  قد أوهموهم شيوخهم  السادين الخرفين بأن مايفعلوه  هو اتباع للسلف الذين يعتقدون انه كان صالحا على الرغم من ان رسول الرحمة محمد (ص) قد تبرأ من فعلهم واستنكره ورفضه الصحابة ..لذلك كانت اولى قرارت عمر بن الخطاب (رض) عند تسلمه الخلافة هي عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش الاسلامية لافعاله المشينة  ،والتي ليس لها اي علاقة بالاسلام ولا بفعل  الكثير من الصحابة..لذلك على النخب المسلمة اعادة النظر في ابجديات التاريخ والتراث الاسلامي ومحاولة اعادة تشكيل الاطار العام للمنظومة القيمية للامة كي يستطيع المسلمون من خلالها القدرة على الفرز والتمييز ..لا احد ينكر ان خالد ابن الوليد كان قائدا فذا قل مثيله في تاريخنا من حيث خبرته الحربية ودهائه العسكري ، لكن هذا لايجعله خط احمر ..وقد تناولت هذه الشخصية كنموذج لنمط التفكير السائد بين معظم المسلمين فتاريخنا يزخر بمثل هذه الشخصيات الانتهازية والتي يقدسها البعض لعدم قدرتهم على فك الارتباط بين المقدس المجرد  وبين من أضفى التعصب والتدليس القدسية عليه ..من منطلق النظرية القائلة بعدل الصحابة والتي روج اليها بني امية لاظفاء القدسية على بعض رموزهم الذين عاصروا النبي (ص) ، وان جميعهم مثل نجوم السماء مصدر هداية للناس ..كالحديث الذي اخرجه الخطيب البغدادي في (الكفاية في علم الرواية)..ورواه ابن عساكر في تاريخه..ونص الحديث (صحابتي كنجوم السماء باي منهم اقتديتم اهتديتم)…وقد كذب صحة هذا الحديث جملة من العلماء كالالباني في كتابه (السلسلة الضعيفة)..وعده حديث موضوع وغير صحيح ..وكذلك قال عنه البزاز في كتابه (تخليص الحدير)..لم يصح عن النبي(ص) قول هذا…وهل من المعقول ان يتبع المسلمون كل شخص رأى النبي(ص) او كلمه  ، كقول ابن حجر العسقلاني في كتابة (الاصابة في تمييز الصحابة )..ان الصحابي هو كل من صاحب النبي (ص) او شاهده  ، وذهب البخاري في (صحيحه) الى ابعد من ذلك فقال ان الصحابي (هو  من راى النبي ..ص.. حتى ولو دون تمييز).. وهذا يعني ان جميع اهل مكة والمدينة وغيرهم من الاعراب الذين رأوا النبي (ص) كلهم صحابة ويجب الاقتداء بهم وانهم عدول ..اعتقد ان هذا الطرح مخالف للمنطق والعقل فقد وصف الله تعالى بعض المسلمين بالمنافقين وانزل سورة كاملة بحقهم هي سورة (المنافقون) بل قال عنهم ..(انهم مردوا على النفاق ) اي اصبح جزء من طباعهم وسلوكهم الحياتي  ، وقد قسم المؤرخون الصحابة كلا حسب اسبقيته وجهادا في الاسلام الى خمسة اقسام (المهاجرين والانصار والبدريين والعقبين اصحاب بيعة الرضوان والطلقاء الذين عفا النبي (ص) يوم فتح مكة )..وحين وضع الخليفة عمر ابن الخطاب (رض)..ديوان العطاء صنف المسلمين بصورة قريبة جدا للتقسيم السابق فجعل اهل البيت عليهم السلام في المقدمة وبعدهم الصحابة كلا حسب منزلته في الاسلام..حتى عندما اعترض عليه ابنه عبد الله في تفضيل الحسن والحسين عليهما السلام عليه في العطاء قال له ..(بني هؤلاء من وضعوا الشعر على الرأس) ، وقد منع عمر بن الخطاب (رض) العطاء على المؤلفة قلوبهم وحذفهم من ديوان العطاء وهم صحابة ايضا وعرفوا (على انهم من دخل الاسلام ولم يرسخ في قلوبهم ) ومنهم ابو سفيان بن حرب ويعلى ابن منبه …وان الترمذي في سننه واحمد بن حنبل في مسنده قد اخرجا  حديث النبي (ص) المروي عن ابي سعيد الخدري الذي قال فيه ..(ما بعث نبي او استخلف خليفة الا وكانت له بطانتان بطانه تامره بالشر وتحضه عليه واخرى تامره بالمعروف وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله تعالى )..وقد شرحه النووي وقال عنه حديث حسن صحيح…اذن ليس من باب الانصاف ان نجعل كل الصحابة في كفة ومنزلة واحدة  ، والكاتب المصري عباس محمود العقاد حينما كتب سلسلته العبقريات في كتبه ( عبقرية ابي بكر وعبقرية عمر وعبقرية علي) رضوان الله عليهم جميعا .. وحين وصل الى  معاوية بن ابي سفيان توقف ليضعه في الميزان في كتابه (معاوية في الميزان ) لانه استكثر عليه ان يضعه في اي مقارنة معهم ، علما انهم جميعا كانوا يعدون من الصحابة .. كونه ادنى شأنا منهم  ، ومن هذا المنطلق والمعيار يجب علينا ان نتوقف قليلا امام تاريخنا ونتامل صفحاته ونجعل العقل الذي عده الفقهاء احد مصادر التشريع هو الضابط والمعيار لمعرفتنا الحقيقة المحضة البعيدة عن التخندق العرقي او الطائفي ، فلا يعقل ونحن نعيش الالفية الثالثة بعد الميلاد بكل ماتحمل من تطور ورقي في كل مجالات الحياة ، ونحن لازلنا نفكر بعقلية ذلك الاعرابي الذي كان يبكي على احد القبور وحين سأله احدهم عن صاحب هذا القبر رد الاعرابي (انه قبر سيدنا حجر بن عدي ، الذي قتله سيدنا معاوية  ، لانه رفض سب سيدنا علي ) .