23 ديسمبر، 2024 12:13 م

موجة  تسفيه الدين .. عداءٌ له أم سخطٌ على رجاله ؟

موجة  تسفيه الدين .. عداءٌ له أم سخطٌ على رجاله ؟

تطويب الإنسان أم ترذيله ، تمجيده أم تحقيره ، الاعتماد عليه أم البحث عن بديل ، هل علينا أن نختار بين هذه النقائض ؟ في كل يوم نثبت نحن البشر إننا بحاجة دائمة إلى دليل تشغيل ( كتالوج ) لهذه الحياة ، بعضنا يثق بقدرة أبناء نوعه وجنسه فيطلب دليله منهم ، لكن البعض الآخر يشكك في تلك القدرة فيطلب معونة السماء .
كنت أسأل كثيرا لماذا  تنجح  بقية المخلوقات في أنظمتها ..  أعمالها .. وظائفها ، وتدير علاقاتها البينية منذ ملايين السنين بوتيرة هادئة بعيدة عن الصخب والشكوى ودون الحاجة إلى إرشاد وتوصيات مكتوبة لا من أرض ولا من سماء ! فقط بعض الغرائز الأولية والقوانين المحدودة كانت كفيلة بهذا النجاح الباهر وهذا الانسجام الرائع ! تقطع المخلوقات أشواطا وتؤدي وظائفها بإخلاص ونزاهة فلم تتخل نخلة عن حمل الرطب ، ولم تتخلف بقرة عن انتاج الحليب ، ولم تكسل شمس عن الشروق صباحا بينما لا زال البشر يخلفون كلّ موعد ، يتعثرون ويكررون الأخطاء عينها في كل جيل ؛ الاعتداء ، الحروب ، التنازع  ، الحسد ، الغنى الفاحش ، الفقر المدقع ، التخمة ، الجوع  ، النجاحات الوحيدة للبشر عبر التأريخ كانت في علاقتهم مع الطبيعة التي كشفت لهم الكثير من أسرارها وأبدت معهم تعاونا منقطع النظير ، أما في علاقاتهم مع بعضهم فقد كانوا خائبين على الدوام ! 
هل تنجح الغريزة ويفشل الذكاء ؟! أيكون ذكاؤنا هو سر فشلنا وشقائنا  ؟! إعجابنا بمجتمعات النحل أو النمل أو البعوض هل يسوّل لنا أن نقول : يا للهول لقد نجحت تلك الكائنات المتدنية لأنها لا تفاخر بأية موهبة غير ما جُبلت عليه ، سنضيف  لذكائنا سببا آخر لطيشنا وفشلنا ، ستكون حريتنا وراء ذلك أيضا ! يا للكارثة .. أن ننظر إلى ذكائنا وحريتنا بهذه الريبة ، هذه ليست مكافأة جيدة للذات في نهاية المطاف 
    نمتلك المزيد من القدرة على التفكير والتنظير لكننا نفشل على أرض الواقع ، بينما تفتقر بقية المخلوقات لتلك القدرة لكنها تنجح على جميع الأصعدة ، ألا يُعدّ ذلك مخيّبا ، يستطيع الكثيرون منا أن يقدموا وصفات ناجعة ونزيهة لحل جميع مشاكل العالم ريثما نحتسي فنجان الشاي خاصتنا ، الأمر ليس صعبا كما نتصور وهو ليس حكرا على الأنبياء والقديسين ، وإذا أردنا أن نتفحص تلك الوصفات بأمانة سنجد أنها لا تختلف عن أهداف الدين وتعاليمه بشيء إذا لم يكن معظمها مستلا منه أصلا وغالبا ما يكون الاستلال مشوها أو هجينا ، لأن الأمور مختلطة جدا فما نظن أحيانا أنه من صميم الدين ليس سوى تفسيرات له ، خاصة بالناس مطبوعة بطابع الزمن لا أكثر ، وهذا ما يثير سؤالا جديا ، أين نجد الدين البكر البريء من تفسيرات الناس وفهمهم المتغير ؟ وهل مازال ثمة دين بهذا الوصف ؟ للأسف إن ذلك الكنز العتيد ضاع في هذه الأرض قبيل التمذهب و التأويل ، إذا أردت أن تقضي على أي دين أو تشتت أهدافه  فحوّله إلى مذاهب ! لا يستطيع أي دين مهما بلغ من الرصانة والقوة أن يحافظ على روحه الأولى حال تشعبه في تلك الطرائق والقدد ، وقد حذر القرآن الكريم من هذه الهاوية فقال :(( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )) قال فيه ولم يقل عنه أو منه .
   كم من الوصفات الجيدة تستطيع النجاح على أرض الواقع ؟ يظل الواقع جبارا لا يأبه لأية كرامة أو استغاثة لأنه ناشىء من طبيعة الأشياء والطبيعة أكبر من الرغبة او النية . الدعوة إلى ترك الإنسان يجرب ويفشل ، يفشل ويجرب ستكلفنا المزيد من الويلات ، هذه حقيقة تأريخية وواقعية لا مراء فيها ، ما نجح فيه بعض اليشر من إقامة أنظمة داخلية جيدة نوعا ما في بلدان محددة لم يمنع الكارثة العامة ، لأن تلك البلدان التي تعاملت بشرف مع مواطنيها لم تكن كذلك مع الشعوب الأخرى بل هي في الحقيقة السبب وراء الكثير من النكبات في أماكن أخرى ، فما زال الأغنياء والأقوياء يتلفون آلاف الأطنان من القمح والرز للحفاظ على أسعارها في السوق بينما يتضور الملايين جوعا . نحن نتحدث عن مسيرة بشرية شاملة لا عن تجربة مخادعة هنا أوهناك ، البشرية لم تبلغ رشدها لحد الآن رغم مرور خمسين ألف سنة على تجاربها المريرة .
كل هذا لن يجعل أحدا منا في راحة ، حتى الذين يؤمنون بخالقية الطبيعة عليهم أن يفسروا لنا لماذا تنجح الطبيعة في كل مكان من هذا الكون المتنوع الفسيح وتفشل مع الإنسان في كل مرة ، إذا كان هو آخر صنائعها  أفلا يفترض أن يكون هو الأجود ؟!  لماذا تنجح مع كل شيء وتفشل معنا ؟ أحدٌ ما يضع العراقيل أمامها أم ماذا ؟ من هو ذاك الشخص ولماذا يفعل ذلك ؟!   أما المؤمنون بالله فسيبحثون أيضا عن الحكمة وراء تعريضنا لكل هذا الحرج والعناء ،  في أحيان كثيرة يسوقون شواهد وآيات لا تنفع في تفسير القضية وتعيدنا إلى بوابة السؤال من جديد مثل قوله تعالى ( ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ليثبت لنا بصراحة إن كبرى الآفات التي أكلت الدين وأساءت إلى براءته هو سوء التفسير والاستعمال ، نعم سوء الاستعمال بعينه ( الدين بحاجة إلى كتالوج أيضا )ويبدو أنه لا خلاص لنا من هذه المشكلة المزمنة  .
خلّف استغلال الدين وزجّه في مختلف الاختصاصات والنشاطات ومنها السياسة والحكم المزيد من الأخطاء والخطايا ، الرذيلة الأولى الناجمة عن ذلك  تتمثل بأن المقولات والآراء السياسية لرجل الدين المشتغل بالسياسة تسوق على إنها آراء السماء أو صاحب الدين أو هكذا يحلو لأنصاره وأتباعه أن ينظروا إليها ، هو أيضا يروق له ذلك ويستغله بأبشع صورة ! هذا حاله وحال  أنصاره ، أما حال الساخطين عليه والمتبرمين من انتهازيته وفشله ( وهو غالبا ما يفشل لأنه لا يفهم القضية ) فلا يكتفون بحصر سخطهم وبرمهم على الرجل ذاته وإنما يتجاوزن ذلك إلى تسقيط الدين الذي ينتمي إليه وتسفيهه ، وهذه رذيلة أخرى قاسية يدفع الدين ضريبتها بسبب النزق السياسي للبعض  ( حدث هذا في أوربا منذ قرون بصورة حادة وثورية وهو يحدث ببطء عندنا لأسباب تتعلق ببطء عقولنا ). الجميع سيضيق ذرعا بهذا الاستغلال السيئ للدين حتى الذين سخروه لمصالحهم أول مرة لأنهم سيجدون من أبناء صنفهم من يستعمل هذه الحيلة في صراعه معهم ، وسيتجرعون من الكأس الذي طالما جرّعوا الآخرين منه ، وسيكون الصراع على أشدّه بين أبناء الله أنفسهم لا بينهم وبين أبناء الشيطان – كما يحلو لهم أن يصنّفوا الناس – 
المتدينون المتحمسون ( و هم غالبا ما يكونون دوغمائيين ، شعائريين ، سطحيين ) لا يفهمون الدور الحقيقي للدين في السياسة والحياة إلا كونه ينحصر بدفع رجال الدين إلى سدة الحكم و التربع على دست السلطة ! و هذا يمثل انحطاطا في الفهم والعقيدة ، الدين ليس بديلا عن الحياة ولا حتى عن أي شيء فيها ، إنما هو خادم أمين يجب أن يرقى بها نحو الفضيلة ، هذا هو الوضع الأصلي للدين الذي عرفته من خلال الكثير من آيات القرآن المجيد ونصوص التوراة والإنجيل وتصريحات الأنبياء  ، الدور الحقيقي للدين في الحياة – أتحدث عن السياسة خصوصا – يتمثل في سعي الدين ونجاحه في خلق الفرد الصالح في مجتمع صالح من خلال ترسيخ الالتزام الطوعي بمنظومة القيم الدينية التي لا يشك أحد في دعوتها للحق والخير والعدل والصلاح في جميع الأديان ، والفرد الصالح الملتزم بتلك القيم سيكون مواطنا صالحا نافعا لمجتمعه ، حاكما كان أم محكوما . عندها سيكون النظام صالحا والدولة صالحة لأن الأفراد الطيبين لا ينتجون نظاما خبيثا أو على الأقل لا يسمحون به ، أما تأسيس الحزب الديني الساعي لاستلام الحكم بدعوى القيام بالإصلاح وإقامة مملكة الله على الأرض فهو ليس أكثر من دعاية مضللة غرضها النزو على السلطة . حكم رجالُ دينٍ من الطراز الأول مرارا لكنهم فشلوا فشلا ذريعا لأن مجتمعاتهم لم تكن ملتزمة بقيم الدين وأصوله ، ولدي مثل عزيز على ذلك لا أرغب في ذكره يصلح أن يكون دليلا قويا على عدم جدوى  حكم القديسين – فضلا عمن هو دونهم –  إذا كان الشعب بائرا أو فاسدا أو غير مستعد للمشاركة في المهمة ، مهمة الدين الأولى والأساسية هي عزق الأرض وتهيئتها للبذار كي تكون الغلة رائعة ، الحكم الرشيد والمجتمع المطمئن ثمرة كبرى لحركة دينية أساسية جوهرية شاملة غير شكلية وغير شعائرية تنتظم فعاليات المجتمع وشعوره ، وذلك لم يتحقق إلا في زمن بعض الأنبياء العازمين لا غير . قد تبدو هذه النتيجة الأخيرة مشتتة للآمال ، لكن لحسن الحظ إن الحد الأدنى من الدين الحقيقي والجوهري سيكون نافعا على الدوام وفي كل مناسبة ، ولسوء الحظ  فأينما سادت قيّم الدين المحرّف الذي يتلاعب به الرجال من أجل مصالحهم وتقبّل الناس تلك القيم دون نقاش كانت الأمور أسهل على الحكّام في استعباد شعوبهم وهنا تبرز الحاجة الملحة لتخليص الدين من الدرن والتحريف الذي لحق به على مرّ العصور ، سخطنا يجب أن يكون موجها إلى الدين المحرف وإلى العقائد الإضافية لا إلى الأصول الأولى ، حربنا يجب أن تشن ضد المتنطعين للنطق باسم الرب لا ضد الرب العظيم ودينه المجيد . 
فكثيرا ما تقع الأفكار أو الكتابات أو المواقف التي تحاول إعادة اكتشاف الدين أو المذهب _ أي مذهب _ تحت طائلة التشنج والانفعال ، المفردات اليومية لسلوك بعض رجال الدين المشتغلين بالسياسة قد تكون وراء إعادة التقييم للعقائد والأفكار التي يرفعون رايتها أو ينتمون إليها  ، متاعب الحياة وإخفاقاتها قد تشكل صدمة تعيد النظر في الكثير من القناعات التي كنا نعتقد لزمن طويل أنها عصية على الاهتزاز ، المفرادت اليومية بعينها وليس التفكير الواعي هو ما يسبب الكثير من البلبلة وينتج الكثير من الارتداد والأفكار الانقلابية  التي كان يمكن أن تكون أكثر إنصافا واتزانا لو أنها طُبخت على نار التأمل المريح . تلك الاهتزازات لا يمكن أن تكون دليل وعي ناضج إنما هي اختلاجات مرحلية قد تهدأ مع تحسن المعيشة وتغير الوضع السياسي  ! علما إن  مطالبتنا بتجريد الوعي من محيطه هي مطالبة غير ممكنة غالبا  لصعوبة العزل بين  الأفكار وبين حامليها الممهورين بأختام الواقع   .
 أمر حسن في النهاية أن أعود إلى سؤالي الأول وذلك ما أتنبه إليه كثيرا أثناء كتابتي ما يجعلها منظمة  ومنهجية نوعا ما ،  إذن لماذا يخلق الله مخلوقا يحمل عوامل فشله معه ؟ اين الحكمة في خلق هذا المخلوق الفاشل في جميع علاقاته حتى في العلاقة الأولى التي خلق من أجلها ( العبادة بحسب الآية ) ؟ أين التكريم والامتياز في ذلك ؟ كيف يمكن للسماء أن تزوّد أعداءها بالأسلحة ؟  هل ينصب الله الفخاخ لشعبه ؟ ( أرجو أن لا يقتطع أحد السخفاء هذه الأسئلة الاستكشافية من مقالتي ليتهمني بالتجديف ) لأني سأحاول بعناء الإجابة عنها في القسم الثاني .. 
[email protected]