فيلم ” شكل الماء ” انموذجًا
بعد التجديد الذي اجراه هانس روبيرت ياوس وفولفغانغ ايزر على المناهج التحليلية السّياقية والنّصّانية لتحليل النتاج الادبي والفني من البنيوية الى السوسيولوجية والهيرمونويقيا والتفكيكية والسيمولوجيا حيث سادت النظرة الى التلقّي على إنّه فعل الاستقبال الذي يلامس النص ملامسة استبطانيه وشكلانيّة لاستخلاص جمالياته عبر عناصره الداخلية ، وبعد ان وضع الاساس لنظرية جمالية التلقّي التي منحت السلطة للمتلقّي وعدّلت من علاقته بالمبدع والنص عن كونها علاقة منتج ومستهلك (1) وعلى امل الوصول الى القارئ صاحب التجربة والخبرة والثقافة الذي يمتزج بالنص وينزع عنه كسله ليبدأ بإنتاج الدلالات وكما تخيله امبرتو ايكو (2) اصبح بالإمكان الاقتراب من الرؤية التي تزعم ان التلقّي للنص الابداعي هو نزوح ادراكي لاستقبال المنتج الجمالي من خلال تقييمه النقدي وتكييفه واستيعابه وإعادة انتاجه (3) ، تلك العلاقة التي وصفها ياوس بأنّها تفتح الصلة بين الانزياح والمعيار لتكوين قرينة ملائمة كما اسماها النمساوي سبيتزر وبما لا يترك اي عنصر من العناصر المكونة للمعنى الشامل يفلت منه (4) ، وذات العلاقة التي قال عنها ايزر بأنّها ” تعتمد على المدى الذي يستطيع فيه النص تنشيط ملكات القارئ الفردي في الادراك والمعالجة ، فلا يمكن للنص ان يكون هو الانتاج ” (5) ، حيث تتجلى سلطة القارئ في تحليق خيالاته عبر خبراته وثقافته للوصول الى فعل القراءة المنتج لا سيما وإنَّ متعته تبدأ عندما يصبح هو نفسه منتجاً لا مستهلكاً (6) .
وسلطة القارئ التي نادى بها ياوس وايزر وغيرهم من رواد جامعة كونستانس المح لها رولان بارت حين قال بأن مولد القارئ يجب ان يعتمد على موت المؤلف (7) ، عاداً القارئ منتِجاً لا مستهلكاً للنص لأنه يقوم بتفكيكه وإعادة بنائه ولملمة مكوناته واجزائه من جديد وتدشين حوارات صريحة احياناً وصامتة احياناً اخرى لاستنطاق صمت المعاني الكامنة (8) .
وفي موازاة مؤلِف/ صانِع مغيّب وفق بارت ، وقارئ يمتلك السطوة بحسب ياوس وايزر يبقى النص / المنتَج وحيداً في مواجهة المتلقي ، خاضعاً لتأويلاته واستجاباته واشتغالاته ، وهو ما وجدناه مناسباً ايضاً للمشاهِد وهو ينفرد بمتابعة فيلم شكل الماء للمخرج المكسيكي جييرمو ديل تورو والذي حصد جوائز أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل موسيقى تصويرية وأفضل إنتاج في الدورة التسعين لجوائز الاوسكار ، كونه يحدث اضطراباً في ذهن المشاهِد / القارئ يفجر نشاطه المكون كالذي تحدّث عن ايزر (9)، وجاء مخالفاً لتوقّعات المشاهد / المتلقي التي تحدّث عنها ياوس وخيّب ظنّه وفقاً لكون الاعمال الابداعية الجيّدة هي وحدها القادرة على جعل افق انتظار القراء / المشاهدين يكمن بالخيبة ، اما الاعمال البسيطة فهي تلك التي ترضي آفاق انتظار جمهورها (10).
الفيلم الذي كتب السيناريو له فانسيا تايلور بالشراكة مع المخرج جييرمو ديل تورو صنِّف على إنّه خيالي تأمّلي ورومانسي في ذات الوقت لما طرحه من إحالات وحوارات وتساؤلات وقصص انجذاب وحب مغايرة وخارقة لسجل توقعات المشاهدين وآفاق انتظارهم ، فالبكماء إليزا إسبوسيتو (الممثلة البريطانية سالي هوكينز) تقع في حب كائن برمائي (الممثل دوغ جونز) تم جلبه من غابات الامازون لإجراء التجارب عليه في المختبر السرّي الذي تعمل به كمنظفة ، وجارها الرسّام غايلز (الممثل ريتشارد جينكينز) بميلوله المثليّة التي تضرب طوقاً على صلته بالمحيط ومهنته الملاحقة بلعنة الكاميرات، وزميلتها زيلدا فولر (الممثلة من اصل افريقي اوكتافيا سبنسر) وما تواجهه من تجاهل زوجها والمحيطين لدورها ووجودها ولون بشرتها، والكولونيل المتغطرس ريتشارد ستريكلاند (الممثل مايكل شانون ) وهو يحمل شكلاً آخر للحب المرتكِز إلى القسوة والعنف في ممارسة الجنس مع زوجته إلين ( الممثلة لورين لي سميث ) مفضلاً ان تبقى صامتة اثناء ذلك مثلما يعتمد على العنف للتعبير عن رغبته في النجاح بعمله عبر تعذيبه للبرمائي وتحرشه باليزا البكماء، فيما يحمل الجاسوس الروسي د روبرت هوفستلتر ( الممثل مايكل ستولبارغ ) نمطاً مغايراً من الحب يدعوه لمساعدة اليزا لإنقاذ حياة البرمائي وتهريبه من المختبر ، كل هذه الاشكال من الصراعات تقع في بيئة الفيلم ومشاهده التي الحّ فيها المخرج على الاستعانة باللون الاخضر وتدرجاته لينقل المُشاهد صوب احاسيس من الرتابة الى الامل والخلاص ومن بعدها التطلع الى قادم اكثر نقاءً وليخرج الفيلم اشبه ببركة جماليّة خضراء من دون الاستعانة بنبتة او شجرة .
افتتاحية الفيلم تنطق بها عين الكاميرا الغاطسة وهي تنزلق بإيقاع واهن في منزل غارق تحت الماء ، للوهلة الاولى يشبه سفينة تغمرها المياه منذ عقود حيث تتجوّل اسماك صغيرة ومصابيح مضاءة ، واثاث تعوم بدبيب كالمجرّة ، فالكل ربما انسلَّ من عاصفة مهلكة، وعين الكاميرا تبحث ملتذة عن كنز ثمين تكشف عنه موسيقى الفيلم التي اختيرت بإتقان ، لكنِّ الإرهاصة الصادمة وسط انعدام الوزن للأشياء وكأنّها سفينة فضائيّة هي في عودة الساعة من سباحتها والاستقرار بالقرب من أريكة نوم اليزا التي تمد يدها وتوقف جرس الساعة عن الرنين وتأشر لعودة الزمن من غيبته فينكشف الغرق ويضمحل انعدام الوزن بافتضاح الضوء الخافت وتنهض للعمل في منتصف الليل ، الانتقالة السلسة من الحسّي والحلمي الى الملموس وبروز منزلها بعد مزج خيالي يفتح كوّة التأويلات امام المتلقي كانت خرقاً لفضاء التوقع ولبنة لتشييد نصوص مفتوحة .
الاستعلاء الرؤيوي الذي يمتزج في خطاب الفيلم من خلال بنيته البصرية والسمعيّة استنفر مجسات التلقي بحثاً عن التركيب والمعنى ، فبطلة الفيلم المهملة والمنسيّة في منزل يستقر على قاعة للعرض والتي وجِدت ملقاة وهي صغيرة قرب النهر تستيقظ من لذة الضياع في نوم غارق لتستقر في حوض الاستحمام الصباحي الذي تراه مهمّاً لعوالمها وتمارس طقسها الحلمي فيما البيضات تنضج في اناء الغلي ، ثلاثة خدوش مثل الحراشف على جانبي رقبتها وكأنها كائن مائي، وتنام في الباص متكأة على الزجاج المبلل بالمطر او الندى دون ان يلمحها احد ، ولغة الاشارة لم تسعفها في التواصل مع العالم المحيط إلا مع المهمشين والثانويين لكنها كانت خيطاً تواصليّاً مع البرمائي الذي جُلب الى المختبر مقيداً بالسلاسل كمهمش آخر في حوض ماء ، مارست معه الحب في حوض الماء وبعدها اغرقت الغرفة وكأنها تشيّد بيتاً لحبها وسريرا مائياً كبيراً ، فالحب ينمو وما عاد الحوض كافياً .
الاستهلال الآسر والتبئير الدلالي والرؤى الحدسية اسهمت في بناء نصوص ابداعية متخيلة في ذهن المشاهد للفيلم / المتلقي ، وكلما زادت قدرة المتلقي على انتاج رؤى وفتح آفاق شعورية تتحوّل الى قيم معرفية وحسيّة جمالية لتشكل عملاً او اعمالاً جديدة وبصفات جديدة كان الفيلم اكثر اتقاناً .
اليزا الكائن المهمّش غالباً ما يفصح عن نفسه حين يكون وحيداً ، فهي ترقص في الممر وترى مالا يراه غيرها ، لقد سبرت واحة من السلام في قلب البرمائي على الرغم من شاكلته المخيفة وحراشفه وقطعه لاثنين من اصابع الكولونيل حيث وضعت الاصبعين في كيس الاكل الذي تجلبه معها ، فيما البرمائي الذي كان آلهة للنهر في الامازون ويستطيع شفاء الجروح واعادة انبات الشعر يتعرّض للتعذيب ومحاولات التصفية على يد قوتين لا يهمهما سوى التدمير ولا يمكن لهما اكتشاف مكامن الاشراق والحب والسلام عند الآخر .
هذه التمظهرات يمكن ان تعمل كمجسات ومشارط ونهايات منفلتة ومتشعبة لبناء تمظهرات اخرى منفصلة او مستقلة عن جسد الفيلم كونها خارجة عن افق خبرات المشاهد وسجله في التلقي (11) الذي يحتوي على نهايات معتادة وبالنظر لقدرتها على التشظّي والانزياح الافقي لتنتج نصوصاً جديدة ومغايرة في ذهن المتلقي الذي صار منتجاً وبحسب الارضية التحليلية لكل مشاهد ، فيما الاشارة الى اللقطة السينمائية بدلاً عن المقطع او المتواليّة كحد ادنى يقبل الاشتغال التحليلي يبدو مناسباً لمثل هذا النوع من القراءات الجماليّة التي تتماهى مع اللقطة السينمائية كضربة فرشاة عابقة بتشظيات استدلالية واحالات صوب عوالم مغايرة واحاسيس مختلفة ولا تحفل كثيراً بالبنى السردية المعتادة مثل الممارسات الكتابية او الشفاهيّة والالسنيّة والعلامات السيميائية الاخرى وان كانت تستعين بها كوحدات دلالة ومعنى .
وفي السينما والاشكال الابداعية الاخرى فإن المشاهدات المتواصلة للنص الاصلي/ الفيلم تفتح المزيد من التأويلات وتشهد ولادة نصوص اخرى اعتماداً على التضخم النسبي الذي افرزته هذه القراءات /المشاهدات على ادراك القارئ/ المٌشاهِد الجمالي ومستوى وعيه ، وإذا كانت إعادة انتاج النص هي عمليّة حشو انيق للفراغات في النص الاصلي بوصف يقترب ولا يتطابق مع ايزر فأن من الواجب اليوم ان نقول إنها عمليّة استيلاد نصوص متعددة لا تشبه النص الاصلي ، الهدف منها ردم هوّة سحيقة في ذات المتلقي وتوق صوب لذة الاندماج بالعمل الفنّي لضمان التجانس والتوافق والاتزان ، وهو ما يضعنا في مواجهة عمليّة ابادة او قتل او تفتيت للنص الاصلي ، لتصبح الكتلة الجمالية هي كم النصوص الابداعية التي انتجها وينتجها المشاهد / القارئ في رأسه اثناء وبعد فعل القراءة / المشاهدة وما يتبع ذلك من موت النص الاصلي وولادة نصوص جديدة .
وما يؤكد ما نذهب إليه هو انَّ سيناريو “شكل الماء ” وبحسب ما انتشر في وسائل اعلامية مبني على حطام نصوص اخرى اسهمت في سبغ تهمة التناص عليه وقد استمدّه الكاتبان من رواية راتشيل انغول ” السيدة كاليبان” وثيمة رئيسية لفيلم “الفضاء بيننا ” 2015 مضافاً الى ذلك ما ذكره المخرج ديل تورو اثناء حفل استلام الجوائز عن تأثير ذكريات طفولته وتجربته مع فيلم ” مخلوق من البحيرة الشاطئة السوداء لجاك أرنولد” حيث يُعتقد بأنه ومن خلال تلقيه واستجابته للفيلم السابق بنى ” شكل الماء ” والافلام التي سبقته وهو ما لم تنكره الممثلة سالي هوكينز حول اتكاء قصّة الفيلم وشخوصه مع افلام اخرى مثل الجميلة والوحش 2017الذي احتوى ايضاً على شخصيّة مثليّة وفيلم شبح الاوبرا 2014 من اخراج هال برنس (12) ، وفي “فيلم شكل الماء ” مثلما يأخذ الحب شكل الاناء الذي يوضع فيه فإن النص الابداعي يمكن ان يتلبّس ذهن متلقيه ويكوّن شكلاً جديداً وإن احتفظ ببعض صفاته .
امّا الناقد في هذه الحال فسيكون كائناً فائضاً عن الحاجة ومتطفلاً على تجربة المتلقي / المشاهد لأنه يسوّق تماهياته المتراكمة كناتج عرضي لتجربته وخبراته التي لا تتوائم مع تماهيات المُشاهد / القارئ الذي يمتلك مستوى مغايراً من الادراك الجمالي ، ويدعم رأي لجان بول سارتر ” إن الفعل الإبداعي لحظة غير مكتملة في العمل الأدبي، لأن عملية الكتابة تفترض عملية القراءة كتلازم جدلي، وهذان الفعلان المرتبطان هما: المؤلف والقارئ.” (13)
وتبدو موجة التلقي كظاهرة ذهنوفكرية مسوّرة بتنظيرات موت المؤلف الذي يفضله بارت وسبقه الى ذلك كثيرون ، واعلاء لسلطة المتلقي بحسب ياوس ، والاتيان بقارئ ذكي كالذي يلاحقه امبرتو ايكو ، قارئ يستطيع غلق مسامات النص وكما وصفه ايزر ، ومع عزل ضمني (موت)يمكن اجتراحه للناقد كي ينطلق ذهن المتلقي / المشاهِد في فضاء النص وبالعكس ، حيث وجدنا امكانية ان يتجاوز القارئ/ المشاهد مهمة اعادة تدوير النص الاصلي وفك شفراته ودلالاته الى فضاء انتاج نص او نصوص مغايرة في ذهنه اعتماداً على خبراته وتجاربه التي حفّزتها واستفزّتها مشارط النص الاصلي والمعزول دون مؤلف او ناقد ، حيث سيختفي النص الاصلي او يتبخر او يموت في غمرة استيلاد النصوص الجديدة وفق جمالية انتاجية ستؤدي حتماً الى ولادة مؤلف جديد ونصوص جديدة مع اعلان موت النص الاصلي وهو ما وجدنا امكانية تحققه وتوافر شروطه في فيلم ” شكل الماء” كميدان مجزي لبرهنته .
الهوامش :
=========
1ـ موسى سامح ربابعة: جماليات الاسلوب والتلقي، دراسات تطبيقية، دار جرير للنشر والتوزيع، الاردن، ط1، ص99.
2ـ أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية ، ترجمة: أنطوان أبو زيد ، المركز الثقافي العربي ، 1996 ، ص28ـ29.
3 ـ يُنظر ، حبيب مونسي ، فلسفة القراءة وإشكاليّة المعنى ، دار الغرب للنشر والتوزيع ، وهران ، الجزائر ، 2000 ، ص 342 .
4ـ ينظر ، سعيد بن الهاني ، جمالية التلقّي والتاريخ الادبي ، مقال / مجلة نزوى ، 1كانون الثاني 2013 .
5ـ فولفغانغ ايزر، فعل القراءة ، نظرية جمالية التجاوب في الأدب ، تر: حميد لحميداني، والجيلالي الكدية، مكتبة المناهل، فاس ، المغرب، ص 55
6ـ المصدر السابق ص 56 .
7ـ المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، د عبد العزيز حمودة،سلسلة عالم المعرفة،الكويت،ع 232،1998،ص:340.
8- رامان سلدن ، النظرية الأدبيّة المعاصرة ، تر : د جابرعصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ط1، 1998 ، ص130.
9 ـ فولفغانغ ايزر: فعل القراءة ، نظرية جمالية التجاوب في الأدب تر: حميد لحميداني،و الجيلالي الكدية، مكتبة المناهل،فاس،المغرب ، ص 108
10ـ روبرت هولب : نظرية التلقي مقدمة نقدية، تر: عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية ، القاهرة ، مصر ، ط1 ، 2000، ص 67 .
11ـ عبد الكريم شرفي ، من فلسفة التأويل إلى نظريات القراءة، الدار العربية للعلوم- ناشرون، منشورات الاختلاف, 2006 ص 183
12ـ صحيفة الشرق الاوسط ، لقاء صحفي مع الممثلة سالي هوكينز ، العدد 14159 في 3 ايلول 2017 .
13ـ جان بول سارتر ، ما الادب ، تر : محمد غنيمي هلال ، نهضة مصر ، ص 49 .