يرى المفكر الكبير محمد أركون أن النزعة الانسانية في العالم الاسلامي قد ماتت سواء كان المجتع عربياً أم لا , وسيطرت النزعات القومجية والاصولية المتطرفة على الجماهير منذ زمن طويل .
وهذا يعني أن خطرّين يتهددان النزعة الانسانية , أو الأنسنة كما أسماها أركون وهما : الاول التعصب القومي أو العرقي , والثاني هو التعصب الديني .
وأحيانا يختلطان فنشهد لدى الشخص نفسه تعصباً قوميا ودينيا على حد سواء . ولسنا بحاجة الى ضرب الامثلة العديدة على هذه النقطة لكي يفهم مقصدنا , فالتيارات القومجية أكتسحت الساحة في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم قبل أن تحل التيارات محلها التيارات الاصولية بدءاً من السبعينيات بعد رحيل زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر .
ولكن هذا لا يعني أن النزعة القومية مدانة في المطلق ولا النزعة الدينية .
وبالتالي فأن العاطفة القومية نبيلة ومشروعة ولكن بشرط الا تتحول الى أحتقار أو نفي للاخرين أو حتى محاولة طمسهم أو سحقهم أنسانياً .
إذن التطرف القومي هو المدان وليست العاطفة القومية السليمة ذات النزعة الانسانية والمنفتحة على الاخر .
قل الامر ذاته عن الدين , فمن الواضح أن يحق للمسلم أن يفخر بدينه الذي هو أحد أكبر الاديان في العالم , ولكن بشرط الا يدفعه ذلك الى التعصب الاعمى ضد أتباع الاديان الاخرى .
فعندما يسود التعصب والانغلاق تختفي النزعة الانسانية وتموت , والانسان من كثرة حبه لنفسه قد يكره الاخر , والميل الطبيعي للانسان هو الى التعصب وليس الى الانفتاح والتسامح , كما يقول علماء التاريخ والفلاسفة .
وبالتالي لا نريد ان نلقي مواعظ أخلاقية على أحد هنا , كلنا متعصبون بالطبيعة للأديان والقوميات واللغات والمذاهب والطوائف التي ولدنا فيها , لكن التربية الحظارية والانسانية المستنيرة تخفف من حدة هذا التعصب وتحجمه وتجعلنا قادرين على الانفتاح وقبول الاخر .
فرفض الاخر قد يؤدي الى أرتكاب المجازر ويصل الى حد الرغبة في أستئصال الأخر عن وجه الارض ,والامثلة على ذلك كثيرة في التاريح القديم والحديث .
ومجتمعاتنا تعاني من ذلك كما هو معلوم . لكننا نلاحظ أن ذلك أنتهى في المجتمعات المتقدمة الحضارية التي تسودها النزعة الانسانية , فما عادوا يذبحون بعضهم بعضاً على الهوية الطائفية أو العرقية . وهذا يعني أن التنوير الفكري قد مر من هنا .
لكن السؤال المطروح هنا هو التالي : متى اختفت النزعة الانسانية من الساحة العربية والاسلامية ؟ وكيف اختفت الى حد أننا وصلنا الى عصر تدعو فيه التنظيمات السلفية الظلامية أحياناً الى أستئصال الاخرين على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي محض ؟ انظر تصريحات بعضهم ضد المسيحيين واليهود أو حتى داخل الاسلام نفسه مثل ما نسمع ضد الشيعة داخل الاسلام نفسه من تكفير وهدر للدم . هذا لا يعني بالطبع أنه لا يوجد تعصب طائفي داخل الشيعة أنفسهم أو داخل اليهود والمسيحيين , لكنه يعني أن التعصب مدان من أي جهة أتي ولأي طائفة أو دين أنتسب , وأنه لايليق بالمجتمعات الحضارية في أوائل هذا القرن الحادي والعشرين .
ويرى محمد أركون أن النزعة الأنسانية تجسدت في العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الاسلامية , أي طيلة القرون الستة الأولى من عمر الاسلام وحتى موت أبن رشد أخر معقل للفلسفة في الأندلس .
بعدئذ دخلنا في العصور الأنحطاطية الأجترارية التكرارية التي ترفض أي تسامح أو تعددية , والتي ماتت فيها النزعة الأنسانية . وظلت ميتة حتى فجر النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر عندما أنتعشت من جديد الى حد ما علي يد مفكري النهضة , قبل أن تقضي عليها النزعات القومجية والاصولية المتشددة من جديد . فالنهضة أجهضت كما هو معلوم , ولولا ذلك لما شهدنا أنتعاش الحركات السلفية المنغلقة بمثل هذه القوة .
دمتم على حب العراق …….