23 نوفمبر، 2024 7:31 ص
Search
Close this search box.

” \u0645\u0648\u062a \u0627\u0644\u0645\u062c\u062a\u0645\u0639 “

” \u0645\u0648\u062a \u0627\u0644\u0645\u062c\u062a\u0645\u0639 “

ــ يتوارى الواقع ليس فقط أمام منتقديه،
بل أمام من يدافعون عنه.
* جان بودريار، اطروحة موت الواقع.

مجتمع علي الوردي البسيط وغير المركب،
مجتمع ثنائية صراع البداوة والتحضر ، وازدواجية الشخصية، مجتمع السلطة والمعارضة، مجتمع الحدود الواضحة،
لم يعد قائماً منذ سنوات،
ويمكن القول انه انقرض ولم يبق منه غير الظلال والأشباح،
لكننا مازلنا نستعمل معايير واقع ميت على واقع جديد،
نشتري فستان سهرة باريسي لفلاحة،
نزت الربابا والعتابا فوق الأنقاض،
نفكر بمقاييس مجتمع منقرض ونعيش في واقع مختلف.

المجتمع القديم تفسخ بكل ما فيه من مؤسسات ومقاييس وسلطات ونظام قيم،
وانهارت شرائح ومعها طقوس واحتفالات،
بل اختفت مدن الرفاق لتحل بدلها مدن أخرى،
وسقطت شعارات وارتفعت غيرها،
وظهرت طبقات لم تكن موجودة أو مدرجة في سلّم التراتبية الاجتماعية وتلاشت أخرى،
ومع الطبقات ظهرت قواها المسلحة بالمال والاتباع والسلاح والثقافة،
واندثرت أخرى أو غاصت في السرانية لكي تظهر في شكل قوى مسلحة بعناوين جديدة،
لأن الأعضاء المبتورة تحن الى العودة من جديد الى الجسد الأصلي.
صراع جبار من سقوط وصعود طبقات وقيم وثقافات ونظم أخلاق وسياسة وغيرها.
ليس صراعا تاريخيا نتاج التطور المنطقى للحوادث،
بل صراع الاستهتار،
وهذا الصراع لا يخضع لضابط ومنطق وقياس وبوصلة واتجاه،
ويتحرك في كل الاتجاهات، فجأة.

تغيرت مواقع الافراد والطبقات والشرائح والقيم والمصالح والسلط، وتبادل الضحايا المواقع مع الجلادين،
ومن كان شريداً صار وزيراً والعكس، ومن كان ضحية صار جلاداً، ومن كان مالكاً صار مملوكاً، ومن كان رفيقاً في الحزب الحاكم ونجا من التصفية، انتقل إما الى السلاح أو الصمت، أو صار أميراً على قبيلة، أو بدل المعطف، ومن كان زاهداً صار مقاولاً… والخ,
ومع ذلك لم تتغير مواقع النظر والكتابة واللغة والتفكير في حين تهاوت أقوى وأشرس الثكنات والقصور والقلاع والسجون.

المجتمع، أي مجتمع، يتفسخ ويموت مثل أي كائن آخر،
مع الفارق ان الموت الاجتماعي صامت وسري رغم ان الرائحة” رائحة التفسخ، تزكم الانوف،
لكن أحداً لا يشم ” لأنه موت عام،
وهو أمر كررناه قبل الاحتلال،
لأن المجتمع العراقي، كما اثبتت الوقائع، كان قائماً بالقوة لكنه يتفسخ بسرية،
وعندما انهارت القوة، كشف الغطاء عن كل المكبوتات التي تحولت اليوم الى قوى وعقائد ونزعات متطرفة ومراكز مال وسياسة ومؤسسات حكم.

الواقع الحقيقي ليس ما نراه بل ما لا نراه، اي المحجوب خلف علاقات قوة ومال ومخفي بالشعارات والرموز والصور والاعلانات،
الواقع المرئي مسطح وغير حقيقي،
والقبض على الواقع المحجوب ليس في قدرة السياسة بل الادب،
بل ان السياسة تعمل على الحجب والاخفاء من اجل المصالح،
تزيف الواقع بالخطابات والمهرجانات والاحتفالات،
كما تخفي النظم القمعية السجون خلف شعارات عن حقوق الانسان على الحدران وخلف الحدائق والاشجار ودور العبادة ودوائر الخدمات:
السلطة تختفي دائما خلف ستار وححاب ولا تظهر في صورتها الحقيقة الا في الخطر والقمع وتطبيق عدالة منحرفة وفي ضواحي المدن المهمشة.

لو ان علي الوردي عاد اليوم، لما تعرف على هذا المجتمع، لا صراع البداوة مع التحضر موجود،
والازدواجية البسيطة التي تحدث عنها ، وهي نتاج الخوف، أنتجت انشطاراً وتشظياً في الشخصية،
بحيث صارت العودة الى الازدواجية القديمة حلماً،
صارت مع صورها من “الزمن الجميل”، زمن الأبيض والأسود، يوم كانت الصور واضحة وضوح القسوة والسلطة والكذب واللصوصية.

نحن زبائن ونزلاء المجتمع المنقرض، هل فكرنا ان تلك العناصر التي كونت تاريخنا العام والخاص،
تلك المقاييس، الثقافة، المؤسسات، نظام القيم، لم تعد موجودة،
ونحن في الواقع نجلس عراة أمام مجتمع جديد وواقع جديد أكثر قسوة من السابق،
وأكثر تعقيداً ولم تعد السلطة فيه في المركز،
بل كل الأطراف صارت سلطاً؟
وكيف يمكن الخروج من الصندوق الى الوضوح؟ من الصور النمطية القديمة الى الصور المتداخلة الجديدة؟ وكيف يمكن فهم ان دائرة الطباشير الوهمية القديمة زالت،
ونحن أسرى واقعين:
1 واقع يتفسخ ويموت دون أن يندثر كلياً.
2 وواقع مشوه جديد يحاول الولادة دون أن يولد كلياً.
3 وبين واقع يتفسخ ويموت وواقع جديد مضطرب الولادة ، تولد الكثير من العاهات، على قول غرامشي، عن زمن المنعطف؟

قد يكون من غير اللائق الكلام عن موت مجتمع ونحن على باب سنة جديدة،
لكن لكي يولد واقع سليم ومعافي، يجب مواجهة الحقيقة لا بالأهازيج أو المفرقعات والتمنيات،
بل في شجاعة مواجهة الذات بالحقائق،
وأولها اننا نعيش أكذوبة كبرى بين مجتمعين ، الأول يتفسخ ويموت ونحن نعيشه، والثاني يحاول الولادة وهو مشوه ونحن ننزلق اليه.

لكي لا نصدم أكثر من القادم، علينا الاعتراف اننا أمام دولة مفلسة وعاجزة في العام القادم حتى عن دفع رواتب للعاملين فيها بعد أكبر عملية سطو لأكثر من 750 بليون دولار منذ عام 2003،
وهذا الافلاس الاقتصادي ليس رقما فحسب وليس أزمة مالية فحسب،
بل هو المسمار الأخير في نعش مجتمع تلقى ضربات مميتة وتفسخ على مراحل بين حروب وحصار واحتلال وارهاب والخ وهلم جرا.
هذا الانهيار الاقتصادي سيجر معه سلسلة من الانهيارات الاخلاقية والاجتماعية والثقافية البنيوية.

اذا كان المجتمع القديم المنقرض أو يكاد قد قاوم حد الاستنزاف كل عوامل القهر اعلاه قبل وبعد الاحتلال وحتى اليوم،
لكنه بعد وصول الدولة الى مستوى الدولة المفلسة سيتداعي علناً ، هذه المرة،
وعلى أنقاضه سيولد مجتمع جديد ليس من رحم القديم في تطور اجتماعي منطقي،
بل ولادة مشوهة كما يولد تمساح من رحم غزال، مثلاً.

عكس من يتوقع ان الأزمة المالية العاصفة ستطيح باللصوص وأتباعهم،
فإن هذه الأزمة ستدفع شرائح كثيرة الى الركوع تحت سلطة قوى مالكة للمال والسلاح والاتباع،
ولن يتعرض لصوص المال الكبار، لا نقصد لصوص علب التبغ أو اللبن أو الشاي، الى خسائر،
بل العكس ان هؤلاء في ظل أزمة اقتصادية خانقة سيعودون بالناس الى زمن المكرمة والهدية والولائم المجانية للمعوزين،
سيلتف حولهم الاتباع أكثر من السابق بدافع الخوف من الجوع والعوز والفاقة:
اللص يصبح ملاذاً وكريماً ومنقذاً،
ستكثر ” عطايا المحسنين” الجدد،
ستكثر ولائم ” الكرماء ” الجدد، وتكثر عمليات شراء الذمم والولاءات والضمائر،
بل ستتحول السلطة والدولة والمجتمع الى رهائن ” للمقرضين” الجدد على طريقة دع الناس تأكل لحم ثيرانها دون أن تدري.

هؤلاء السادة الجدد لن يكونوا بحاجة الى دولة مفلسة بل الدولة ستكون محتاجة لقروضهم عبر وسائل مصرفية سرية تمحي فيها آثار السطو،
وبذلك تقع السلطة والدولة والمجتمع رهينة، من جديد، تحت أخطر أنواع الهيمنة الصامتة،
في مجتمع مباشر لا يعرف الا العدو المرئي.

هل نكرر ان المجتمع القديم مات وتفسخ،
ونحن ننحدر الى مجتمع جديد غريب الأطوار،
بعد أن أخذ اللصوص حصتهم من الوليمة الكبرى؟

لم يبق غير التوسل:
” لا تقطعوا الراتب،
لا تقطعوه، لكي نشبع حاجاتنا البدائية، فقط،
واسمحوا لنا، فقط أيضاً، بالذهاب الى المرعى”.

أحدث المقالات

أحدث المقالات