الدولة الشرقية.. منها ما مات ومنها ما يحتضر.. فقد انتهى عمرها الإفتراضي، وما الثورات والإنتفاضات وحركات التمرد التي تجتاح الدول سوى مصاديق لأشكال انتهاء موت الدولة الشرقية.
بفعل التطور التاريخي أو بسبب ثقل فشل مشروع الدولة أو نتيجة للمؤمرات الكونية.. أياً كان السبب.. فإنَّ الدولة الشرقية استنفذت أغراضها ومبررات وجودها وادركت عمرها الإفتراضي فدخلت مرحلة الفناء.. ولن تستثنى منها دولة اليوم أو غدا، فما يصدق على هذه الدولة من حكم يصدق على تلك بسبب تشابه بنية الدولة الشرقية في معاييرها وأسسها وسياساتها وإن اختلفت مسمياتها جمهورية كانت أم ملكية.
احتضار المشروع
بعض الدول ماتت والأخرى تنتظر.. إلاّ أنَّ نموذج الدولة اليوم -وبالوصف الدقيق- يحتضر سواء تغير النظام هنا أو لم يتغير هناك، وأقصد بنموذج الدولة مشروعها الذي به قامت وعلى أساسه تشيدت وبسببه تحتضر،.. فحتى الدول التي شهدت الثورات ونجحت بتغير النظام ما زالت تحت وطأة احتضار المشروع،.. وهي وإن نجحت بتغير النظام إلا أنها لم تدرك احتضار مشروع الدولة، هي استطاعت تغيير النظام ولم تدرك الى الآن تغيير مشروع الدولة بالعمق، بل أنها تحاول إعادة انتاج الدولة على نفس المشروع التاريخي للدولة الشرق أوسطية ولم تدرك أنَّ المشروع –بفعل عوامل جمة- يحتضر وفي طريقه الى الموت ولن يمكن بث الحياة فيه.
مؤشر خطير
الكيانات السيادية للدول الشرقية تشهد محطاتها الأخيرة ككيانات مجتمعية وسياسية موحدة، فليس هناك من مؤشرات واقعية لتماسكها كأمة سياسية واحدة، بل هي سائرة نحو التمزق والتشرذم والولادات الأميبية للدويلات،.. يعني هذا دخول المنطقة في صيرورات جديدة تموت فيها دول وتولد أخرى وما يعني ذلك من إعادة انتاج شاملة لجميع شعوب ودول المنطقة. السبب، أنَّ هناك إصراراً على عدم الإعتراف بفشل نموذج الدولة لدينا، وهناك مساع حميمة لتصور أزمة الدولة على أنها أزمة استبداد وكفى دون النظر إليها كأزمة ولادة ومشروع ومعايير وأسس ومنظومات خاطئة أنتجت فشل مشروع الدولة. لا يمكن الحديث عن بقاء الدولة –أياً كانت- دون تغيير جوهري في طبيعة مشروع الدولة الشرقية، وإلاّ فتشرذم الدولة قادم لا محالة.
ولادات مصطنعة
الأعم الأغلب من دول المنطقة لم تولد بشكل طبيعي، فهي لم تنشأ على وفق معادلة (الأمة الدولة) بل أنتجتها معادلة (الدولة الأمة)، أي لم تكن هناك أمم قائمة بذاتها تتطور صيروراتها فتتطور لديها الدولة. إنَّ الدولة نتاج تعبير عن تطور الأمة وتطور أشكال السلطة المنظمة لها والمعبرة عنها، وحتى الثورات التي تشهدها الأمم ذات الجوهر الفعال المتناغم فهي –أي الثورات- تعبير عن رفض شكل معين للدولة لتستبدله الأمة بشكل آخر للدولة،.. إنَّ الأمة السياسية الفعالة هنا هي أمة منتجة للدولة فالدولة مظهرها المعبر عنها في حقبة تاريخية معينة، وأغلب الدول الشرقية لم تكن كذلك، أي لم تكن أمم فعالة ذات جوهر سياسي شديد الوضوح والتركيز والفعالية، بل هي –لحظة انهيار الدولة العثمانية وحلول الإستعمار الجديد- كانت أقرب الى المجتمعيات المحلية على حساب المجتمع السياسي،.. هي مجتمعيات إثنية محلية فاقدة للجوهر السياسي وفق مفهوم الأمة السياسية المنتجة للدولة،.. وقد ركّبت على هذه المجتمعيات المحلية كيانات سيادية باسم الدولة. إنَّ ولادة الدولة وفق هذا الشكل كانت ولادة مصطنعة بإرادة خارجية، فلم تلد الأمة الدولة كتطور طبيعي، بل أنتجت الدولة أولاً لتلد هذه الدولة فيما بعد أمتها السياسية ذات الجوهر والهوية الموحدة، وهذا ما لم يحدث،.. وهو أهم عامل جوهري أسس لإعتلال مشروع الدولة الشرقية واحتضاره وموته فيما بعد.
معظم الكيانات السيادية الشرقية أنشأت بعد الحرب الكونية الأولى، وتم التعاطي معها كمخلفات حرب مكتسبة تم تقاسمها بين الدول المنتصرة التي رسمت الخارطة الجيوسيادية على أساس من اتفاقات المنتصرين ومصالحهم الكونية (سايكس بيكو مثالاً)،.. وبين لحظة تاريخية وأخرى وجدت المجتمعات الشرقية نفسها ضمن كتل سيادية (دول) تشتمل على خليط من مجتمعيات دينية عرقية طائفية غير المتناغمة.
الدولة الأمة
أريد من مشروع الدول الجديدة القائمة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية أريد لها أن تكون أمم سياسية تنتظم بكيانات سيادية، فالدولة هي التي تنتج الأمة، وهذا ما لم يحدث على الأعم الأغلب، والسبب الأساس يكمن بفشل مشروع الدولة ذاته بسبب سوء معاييره وأسسه وسياساته، وبفشل مشروع الدولة فشلت محاولات صناعة الأمة، فبقيت أمم الدول الشرقية عبارة عن مجتمعيات محلية عرقطائفية إثنية مناطقية متناشزة متصارعة على السلطة والثروة والهوية والمصالح داخل الدولة.
فشل مشروع الدولة
الأسباب الجوهرية لفشل مشروع الدولة تتمثل بثلاثي: الإستعباد والإستبداد والإستبعاد، الإستعباد مقابل المواطنة، والإستبداد مقابل الديمقراطية، والإستبعاد مقابل التعددية،.. فمشروع الدولة الشرقية على الأعم الأغلب هو مشروع سلطة عرقطائفية فئوية حزبية فردية عائلية مستعبدة لجمهورها الوطني ومستبدة فيه ومستبعدة للآخر المخالف، وهو ما قتل روح الأمة الوطنية وشرذمها وحال دون تماهيها بمشروع الدولة. إنَّ إحياء الهويات العرقطائفية الفرعية على حساب الهوية الوطنية ونكوص الولاء للدولة هي نتائج ثلاثي الإستعباد والإستبداد والإستبعاد الذي أسس للصراعات المجتمعية والتخندقات على أساس من الهويات والولاءات والمصالح الفرعية وحال دون انبثاق دولة الجمهور الوطني. لقد قتلت السلطة الدولة، تحايلت عليها وعلى وجودها ووظائفها، فلم تكن دولة بل مسمى دولة.
الدولة الحقيقية هي أمة سياسية تنتجها المواطنة الكاملة الفعالة الضامنة للمساواة والعدالة والتكافؤ، وتنتجها الديمقراطية كنظام يجسد الوعي والإرادة والإختيار الشعبي، وتنتجها التعددية القائمة على الإعتراف بالآخر المختلف بما يضمن تمكين خصوصيات الإختلاف ومتطلبات التنوع ضمن إطر الإعتراف والإحترام والسلم المتبادل بين مواطني الدولة،.. الأمة السياسية هي تعبير عن الحيز المشترك للمواطنين المحقق لرغبة العيش والمصالح المشتركة والمنتج بالتبع لهوية وطنية جامعة، وأدنى اعتماد لمعايير العرق والطائفة والإثنية على حساب المواطنة، وأدنى شرعنة للإستبداد واحتكار السلطة، وأدنى رفض للآخر الوطني المختلف.. سيؤسس ذلك كله لقتل الأمة السياسية التي هي الدولة، وهذا ما مارسته الدولة الشرقية بامتياز.
بعد فشل الدولة
بعد فشل انموذج الدولة الشرقية، انكشف الواقع عن حجم التصدعات الهائلة في وحدة أمة الدولة، وتكشف عن تضخم مريع للهويات العرقطائفية الذي وصل الى الصدام والإحتراب، وها هي الدول تنوء اليوم بكم هائل من التناقضات المجتمعية والسياسية وسط ركام من الفساد والخراب وتداخل الإجندات وتضارب المشاريع الداخلية والدولية لحسم مشروع الدولة المراد انتاجها على انقاض الدولة الفاشلة.
اتجاهات الواقع
بعد فشل انموذج الدولة الشرقية انفتح الواقع على احتماليات واتجاهات عدة تتراوح بين:
1- احتمالية التقسيم الناجز للدول القائمة الى دويلات عرقطائفية إثنية مناطقية تقوم على أساس من المزاوجة بين الإنتماء العرقطائفي بالسياسي السيادي.
2- بقاء الدول موحدة شكلياً إلاّ أنها تعترف بنظام الدويلات المقنع مع استمرار وضع قلق يهدد الأمن والسلام والوحدة المجتمعية والسياسية للدولة.
3- إعادة إنتاج انموذج الدولة الشرقية الفاشلة من خلال إعادة إحياء أسسها ومعاييرها ولكن بلون وإطار جديد انطلاقاً من الإيحاء بأنَّ مشكلة الدولة تتلخص بالإستبداد وقد انتهى الإستبداد.
4- محاولة تلمس عقد وطني مدني ديمقراطي لمواطني الدولة الشرقية يعيد تأسيس مشروع الدولة على أساس من المواطنة والديمقراطية والتعددية والمدنية والتنمية المستدامة، مثل هذا العقد تنتجه كتلة تاريخية (نخبوية حزبية) وطنية مدنية واضحة الرؤية وحاسمة التصميم وفعالة الإرادة لإعادة انتاج تاريخ المنطقة وفق أسس الحكم الصالح والدولة الرشيدة.
[email protected]