عشر سنوات مرت دون قدرة الساحة الموسيقية العراقية على تقديم أغنية واحدة راقية مترعة بالعذوبة والجمال والصدق الفني ، سواءً كانت عاطفية أم وطنية ..!
وإذا سلمنا بما يقوله الفلاسفة وعلماء الجمال بأن الموسيقى والغناء ترجمة للحالة الثقافية والحضارية ومدى فاعلية الوعي الإجتماعي وثرائه الفني وانعكاسه في إبداعات الشعراء والموسيقيين ، فهذا يعني اننا نحيا بلا ثقافة ولاقيم جمالية او أدبية معبر عن روح الشعب ومسرح انفعالاتها .
سنوات طوال لم نسمع سوى نقيق الضفادع و تلك “السخافات” المبتذلة التي يسمونها اغاني عاطفية ، او نواح يرافق إطلاق النار في اصوات فجة وكلمات لأقزام ( الشو..عراء) تسمى وطنية او حربية لكنها تكرس الخيبة وتحفز على الإنكسار..! ولنا الحق ننكر هذه النفايات التي تدعى أغاني.
حين استمع لأغاني اشقائنا المصريين حين ينشدون لمصر ، ويقاومون التخلف (الأخواني) بالأغاني التي تغازل النيل والإهرامات وامجاد تاريخ البلاد وأهلها،وحين يسخرون من الفساد ببلادهم باغنية(احترامي للحرامي) لآمال ماهر ، اشعر ان المؤسسة الثقافية والفنية المصرية مازالت متجانسة مع شعب يتساءل بشجاعة ومروءة ، وتغذيه باسباب الرفعة والأحساس بالأمل والثقة بالمستقبل ، مؤسسة لم يدجنها الإسلام السياسي كما يحدث في بلادنا المستباحة .
شح الأغاني وفسادها يبدو انه يترابط جدليا مع تصحرالواقع الثقافي وفساد المؤسسة الثقافية وانهيارها، ولأن الأغاني ترتبط بالشعب ومشاعر الناس المتلونة فهي قادرة على التعبير خارج اسوار المؤسسة الحكومية ، لكن هذا لم يحصل في البلاد . بإستثاء يثير العجب ..!؟
شعب بلا اغاني يعني انه يعيش ظاهرة إنفصام الشخصية ، وخصوصا شعب العراق ، فالعراق أول من غنى في التاريخ الإنساني، اسألوا صفحات التاريخ ودولة سومر وتلك الأناشيد التي تغازل جلجامش وصديقه انكيدو .
كانت لنا اغاني مثل (ماهو منا ياشعبنا) و(لاحت رؤوس الحراب) و (نحن الشباب لنا الغد)و(تكبر فرحتي بعيني )و(الشمس شمسي والعراق عراقي) وغيرها كثير ممن تجعل الأنفاس تحتبس ويرتفع ضغط الشرف عند من يسمعها ..!
اما الأغاني العاطفية فلنا فيها نهر ثالث يمتد من ليل الناصرية وأنين داخل حسن وحضيري ابو عزيز وخضير حسن ناصرية وناصر حكيم ، يحملون تحت عباءاتهم نشوة ( الهيوة) الصاعدة من البصرة ، نهر تغذيه الروافد كلما يمر بمدينة عراقية فيحمل نجواها ولوعة روحها ونشيجها حتى يفيض ببغداد ويغرقها بحلاوة الاحساس الذي جعلها اكثر مدن الوجود رقة وبهاءً، ويزاحمك الأسى الشفيف حين تبلغ ذروة ذلك الغناء الجميل في سبعينات وثمانيات الجمال العراقي الدافق بالعذوبة وطاقات مشاعر لاتنتهي .
الآن غادرنا زمن “غريبة الروح” و” حن وآنه أحن” انقرض عصر (البنفسج ) ومضى رياض احمد برحلة نعي على ايقاع (مره ومره) ولم يزل فاضل عواد يحصي (كطرات النده) وينتظرموعد مرور (الريل على السدة)، عاد سعدون جابر بعد اربعين عاما يوصي (الطيور الطايرة) ان تحمل سلامة من غربته في امريكا الى سماء أهله في العراق وولاياته الناقعة بالأحزان .. !
يقول الشاعر الكبير سعدي يوسف { كل الأغاني انتهت … إلا اغاني الناس … والصوت لو يشترى ، ماتشتريه الناس ..}
وطن بلا اغاني لايختلف كثيرا عن المقبرة .