عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت- لبنان، صدرت مؤخراً المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر أديب كمال الدين بعنوان (مواقف الألف)وهذه المجموعة تشكّل إضافة نوعية جديدة الى رصيده السابق من الاصدارات التي يكتبها بتفكير مركّب بطريقته الصوفية المعروفة الأفق والمغزى.
حيث إن العلاقة ما بين الشاعر أديب كمال الدين والحروف وقصائد الحروف أشبه ما تكون بالعلاقة الميثالوجية المرتبطة بصوفية المكان والمعنى والتنبؤات والأزمات التي أحاطت بحضور الحروف وتألقها وبزوغها وبخرابها .ففي (مواقف الالف) يقفز الشاعر الى منطقة المناجاة الصادقة الحقيقية ما بين الإنسان والخالق. فلكل قصيدة، أي لكل موقف من مواقف المجموعة التي بلغت 55 موقفاً، نرى محطة ينزل فيها الشاعر ويحطّ ركابه وركاب أسئلته الكبيرة: أسئلة المحنة والعذاب والألم والمعاناة والرحيل الذي لا ينتهي:
أوقَفَني في موقفِ الرحيل
وقال: من رحلةٍ إلى رحلة
ستقضي العمرَ يا عبدي.
فإنْ ودّعتَ ضياءً
فسترى ضياءً آخر.
وإنْ انقلبتْ بكَ السفينة
فستنقذكَ سفينةٌ أخرى.
وإنْ غرقَ البحرُ فيك،
وكثيراً ما سيغرقُ البحرُ فيك،
فسينجيكَ شاطئٌ من الجمر
أو شاطئٌ من الفجرِ أو المجهول.
وإنْ أكلكَ الذئب
فقميصُكَ حَيّ،
بدمِه الحَيّ،
إلى يوم يُبعَثون.
لكن الشاعر هنا يقترب كما يبدو من منطقة خطرة جدا، يقترب من نقطة اللاعودة حيث يقف أمام السؤال الإنساني الكبير ليسأل ذات الأسئلة التي سألها من قبل: إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، أسئلة الخلق وتفاصيله ورحلة الكائن في الحياة ودروبها المتشعبة، وأسئلة الموت واللحد والخوف والظلام. يقول في موقف إبراهيم:
أوقَفَني في موقفِ إبراهيم
وقال: يا عبدي أرأيتَ إلى خليلي إبراهيم
وكيف انتقلتْ به الدنيا
من واقعةِ السؤالِ إلى واقعةِ الخَلْق،
ومن واقعةِ الخَلْقِ إلى واقعةِ النار،
ومن واقعةِ النارِ إلى واق�رِ إلى واقعةِ هاجر،
ومن واقعةِ هاجر إلى واقعةِ العطش،
ومن واقعةِ العطشِ إلى واقعةِ زمزم،
ومن واقعةِ زمزم إلى واقعةِ إسماعيل،
ومن واقعةِ إسماعيل إلى واقعةِ البيتِ العتيق؟
وهو في كلِّ ما رأى
كانَ سُؤالاً ثابتَ الجنانِ لا يُبارى.
قلتُ: ألم تؤمن؟ قال: بلى
ولكنْ ليطمئّن قلبي.
فكانَ شاهداً على الخَلْقِ والخليقة
وعنواناً من الصبر،
من جمرةِ الصبر،
على واقعةِ الحقيقة.
اما في موقف الخضر فهناك حضور لتفاصيل الحياة وحركتها وأسبابها:
أوقَفَني في موقفِ الخضِر
وقال: يا عبدي
أرأيتَ كيفَ أغرقَ الخضِرُ السفينة؟
أرأيتَ كيفَ قتلَ الغلام؟
وكيفَ أقامَ الجدار؟
بالخضِر وبأمثال الخضِر
أعيدُ صياغةَ كوني،
وأرتّبُ ساعاتِ يومي،
وأداولُ الأيامَ بين الناس،
وأداولُ الناسَ بين الأيام،
وأداولُ الناسَ بين الأبواب.
فأخرجهم بالحقِّ من بابِ العزّ
إلى بابِ الذُّلّ،
فالعزّةُ لي وحدي.
ووحدي.
وأخرجُهم بالحقِّ من بابِ الغنى
إلى بابِ الفقر،
فأنا الغنيّ وأنتم الفقراء.
ثُمَّ أخرجهم من بابِ القوّة
إلى بابِ الضَعْف،
ومن بابِ الضَعْف إلى بابِ الهلاك
ثُمَّ أدفعهم دفعاً حتّى باب الموت.
أدفعهم جميعاً فأنا الحَيّ الباقي،
لأرجعهم إلى بابي
فُرادى كما خلقتُهم أوّلَ مَرّة.
أرأيتَ إلى سِرِّي؟
أرأيتَ إلى عَظَمةِ سِرِّي؟
اما في موقف الصبر فهو يلهث املا في أن يصل الى نتيجة ما عبر عاصفة تتلوها عاصفة وكربلاء تتلوها كربلاء ومنفى أبعد من السماء وأقرب من حبل الوريد:
أوقَفَني في موقفِ الصبر
وقال: الصبرُ امتحانٌ عظيم.
فماذا ستفعلُ يا عبدي؟
أعرفُ أنّ كلماتكَ سترتبك
وينهار معناها
مثل جبلٍ من الثلج
وستدمع عيناكَ مثل طفل ضائع
في السوق.
أين منكَ إرادة يوسف الصدّيق؟
وأين منكَ حلم يعقوب
وقد ابيضّتْ عيناه من الحزنِ فهو كَظيم؟
وأين منكَ، قبل هذا، صبر نوح وإبراهيم؟
وأين منكَ صبر مَنْ أرسلتُه رحمةً للعالمين؟
وأين منكَ صبر الأوّلين:
صبر عليّ والحُسين؟
أين وأين وأين؟
أين وقد أنفقتَ حياتَكَ
في عاصفةٍ تتلوها عاصفةٌ،
وفي نارٍ تتلوها نار،
وفي طوفان يتبعهُ طوفان،
وفي أُحُد تتبعُها أُحُد،
وفي كربلاء تلدُ كربلاء جديدة،
وفي منفى يتبعهُ منفى:
منفى أبعد مِن السماء
وأقرب مِن حَبلِ الوريد؟
هنا تبدو (ترنيمات) الشاعر مختلفة تماما عن ما كتب من قبل اختلافا جذريا في هذه المجموعة المثيرة. فهو يطور حروفيته ليختزل عبر اسلوبيته الخاصة الشوقَ لإيمان والحب والنور والضياع والخوف والصبر والضعف والارتباك والامنيات والجنان والخمرة واللذة والنشوة والطمأنينة والشوق ليقترب بقوة من نبع الصوفية الأعمق وسؤالها الروحي الذي راود البشرية عبر الازمنة السحيقة حتى الآن:
أوقفني في موقفِ الشوق
وقال: أحَسِبتَ أنّكَ اشتقتَ إليَّ وحدك
وبكيتَ دمعاً ثقيلاً
وكتبتَ حرفاً وكلمةً وقصيدةً وكتاباً؟
أراكَ، إنّي أراك
في حيرتِكَ تتردد
وفي سؤالِكَ تنهار
وفي غربتِكَ تتشظّى
وفي يومكَ المرّ
تغربُ ثُمَّ تشرق
ثُمَّ تحترقُ ثُمَّ تغرق
ثُمَّ تزّلزلُ ثُمَّ تنجو
ثُمَّ تطفو ثُمَّ تنام
ثُمَّ تموتُ ثُمَّ تحيا
لترتّلَ القرآنَ ترتيلا.
أراكَ، إنّي أراك
في شوقِكَ العارمِ المستجير
يوماً بعد يوم
وفصلاً بعد فصل
وعمراً بعد عمر،
فأتجلّى لكَ في كلِّ حرفٍ
من حروفِ القرآنِ يا عبدي.