7 أبريل، 2024 11:59 ص
Search
Close this search box.

مواقع للكلمة أم  للحط من قيمتها ؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

ان العمل مع الكلمة هو عمل مضني ويستهلك وقتا طويلا ( وان كان ممتعا) . لكن هذه الجهود والساعات والخبرات المتراكمة تقدم مجانا الى المواقع الالكترونية . لا بأس , لنقبل هذا السخاء ,  فالكتاب هم في النهاية اصحاب رسالة ولا يسعون للكسب عن طريق الكلمة . ولكن هل اصحاب المواقع هم كذلك ,  هل يحترمون الكلمة ؟
حدث انني كتبت نصا أخذ مني جهدا غير عادي . كان من ذلك النوع الذي يتطلب دقة تاريخية وتقصي للمعلومات ومزج متعمد لانواع متعددة من الأصوات . واعتقد انني بذلت ما لايقل عن سبعين  ساعة من العمل (تأمل وبحث واعداد وتنفيذ ) لكي اخرجه واستريح منه.  وحين  اصبح النص جاهزا  فكرت على الفور  بنشره .  واظن انني لست الوحيد  الذي يفكر على الفور بنشر ما عنده حال انتهائه .
في أي موقع سوف أنشره ؟
أستشرت أحد أصدقائي  فأشار الى موقع الحوار المتمدن  
ذهبت اليه وبدأت استكشف معالمه قبل ان اسلمه خلاصة جهدي . وجدت في صفحته الاولى رقما  فلكيا يشير الى عدد زواره (  547.216.177  )   ورقما يشير الى معجبي الفيس بوك (2,256,565)  . هذه علامات مثيرة وصادمة في نفس الوقت . توغلت في تفاصيل الموقع . وجدت الموقع يشبه الى حد بعيد سوقا شعبيا  مزدحما بأكوام  البضائع والضجيج , ويحيط بالسوق كم من التشويشات والسكراب والحفر الغير مردومة .  
 فتحت احدى قصائد سعدي يوسف  ( الشيوعي الأخير يغادر عمان ).   فوجدته محشورا بين ركام من السكراب . استطعت بصعوبة تخليصه من بين انياب تلك الخردوات .  وبدل ان اواصل قراءة النص وجدت نفسي انزاح كليا الى تأمل السكراب المحيط بالمقال والذي كان يشكل سبعين بالمئة من حجم الصفحة .  فماذا وجدت ؟
 اليكم قائمة بالموجودات التي عثرت عليها :
• فوق النص مباشرة اعلان( فانوس تيليكوم ) بثلاث نسخ .
• يمين النص اعلان بالهولندية يمتد طوليا  وفتاة  تتساءل عن الطريق للوصول الى رجال الاعمال  . تحته مباشرة أعلان عن شركة تلفورد للأتصالات .
• فتيات مغربيات تبحث …  ( بلا شك لا يتعلق الامر بالبحث عن عمانوئيل كانط).
• عروض للزواج في هولندا : ابحث عن شريكك معنا .
• دليل انظمة العمل السعودية .
• اعلان لعشرة اشرطة يوتيوب
• اعلان للتسجيل في  غرفة التجارة الهولندية .  ( لا أعرف بماذا تفيد القارئ العربي  وما علاقة ذلك بالحوار المتمدن)
• أعلان باللغة الهولندية للحصول على فتاة للذين تجاوزوا الخمسين.
• في تقلب الاعلانات ظهر لي فجأة وجه لفتاة آسيوية راغبة في الزواج مع تخفييف الشروط الى ادنى حد .
القائمة طويلة وبأمكانكم متابعتها لو احببتم  . والامر لايختلف كثيرا عند الذهاب الى موقع آخر يتميز  ايضا بكثرة عدد زواره  وهو موقع ( ايلاف ) .  اذ ان طبيعة الاعلانات وحجمها يكاد يكون هو نفسه الموجود  في ( الحوار المتمدن ) . ما عدا ان أيلاف  يهتم بتخفيف الوزن اكثر من ايجاد شريك  للذين تجاوزوا الخمسين . 
والحقيقة اننا لسنا ضد جمع الرؤوس بالحلال حتى ولو بطريقة اليكترونية ,  ولا ضد تخفيف الأوزان  او اقتناء أجهزة الأتصال  .
المشكلة التي نعاني منها على الدوام هي مشكلة الخلط . هناك خلط على الدوام بين الاشياء لا يسمح بتطور احدهما وتنفسه . هناك على الدوام ادغال تحيط بالنبتة المرجوة والمتفق عليها  تمنع نموها وتفتحها . سوف تعلو الادغال والاعشاب الضارة حتى تأكل النبتة المرجوة  . ولكي اكون واضحا تماما اقول ان المواقع التي اتحدث عنها تسوق في البدء على انها مشاريع للكلمة الحرة اي مواقع ثقافية وظيفتها ازدهار الكلمة ونموها وخلق مجتمع يتعامل بجدية مع الثقافة والفنون .ولكن ما ان يبدأ زحف الكتاب والفنانون واتساع رقعة الموقع حتى تظهر الاهداف الحقيقية للمشروع   .
ماذا وجدت في الحوار المتمدن ؟
باختصار وجدت مشروعا تجاريا مشوها وطفيليا .  هناك خلط بين الكلمة والتجارة لا يسمح لأحدهما بالنمو.
هل التجارة ضد الكلمة ؟
الجواب نعم . لا يمكن للكلمة ان تنمو في حضن التجارة . مثلما لايمكن للتجارة ان تنمو في حضن الكلمة . التاجر اول من يؤكد لك هذا الافتراق  . والذي يريد ان ينشئ مشروعا تجاريا فهناك حقل واسع ويدرس حتى في الجامعات اسمه الترويج وهو جزء من علم التسويق . بأمكان التاجر ان يؤسس شركة دعاية واعلان ويحجز له موقعا في الانترنت لا أن يؤسس موقعا ثقافيا . وانا اعتب على الكثير من الكتاب والمثقفين كيف لا يقفوا امام هذا الحط من قيمة الكلمة.
يشير الموقع الى عدد زواره الذي يتجاوز النصف مليار وعدد معجبيه الذي يتجاوز المليونين , ولو اخذنا بهذه الارقام  فيعني هذا ان حال الثقافة في عالمنا العربي والعراقي هو في القمة .
من هم هؤلاء النصف مليار , وماذا يريدون ؟ كم منهم يقرأ المقالات فعلا  وكم منهم مكبوت جنسيا  يريد ان يتزوج او يخفف وزنه او يشتيري له ماكنة حلاقة عن طريق الحوار المتمدن؟ . اي تمدن هذا الذي يحشر كلمات سعدي يوسف بين ثل من الهواتف الخلوية وصور الفتيات والفتيان المشغولين بالبحث عن نهايات  سعيدة لاعضائهم االجنسية  . ما هو شعور سعدي يوسف وهو يرى قصيدته محشورة وسط هذا الركام من اللامنطق   ؟ ( أنظر الصورة وقارن بين حجم سعدي وحجم الفتاة ) .
سوف يعترض علي احدهم قائلا : ان الاعلانات لابد منها لتغطية النفقات ؟ 
ها قد وصلنا الى مربط الفرس , هذه هي الحجة . هل يستطيع اصحاب هذه المواقع ان يقدموا كشفا بالنفقات  مقابلها  الارباح التي يجنوها ؟ هل يكشفوا اوراقهم كما تقتضي  الشفافية ؟ لماذا لا توجد زاوية في الموقع لمثل هذه الحسابات ؟أليست الشفافية هي جزء من الحوار المتمدن ؟ ماهو الفائض من هذه العملية الحسابية البسيطة ؟. هل يجني صاحب الموقع مثلا دخلا شهريا يعادل دخل مواطن اوربي يحمل شهادة عليا (3000  يورو تقريبا ) .  سوف اقدم له اعتذارا وبنفس قوة هذا الهجوم وانشره بنفس الصفحة اذا كان دخله الشهري اقل من الرقم المذكور  . سوف اتغاضى عن هبات( الخيرين ) وهدايا السفراء  لأني احتاج هنا الى منجم او قارئ كف . سوف نتحاسب فقط على ثمن الدعاية  للسكراب والخردوات والازبال التي تحيط بالكلمة وتخنقها بقوة لتحيلها الى جزء طارئ ومشوه .
يجدر بنا ان نتهيأ من الآن الى حقيقة انحسار زمن الورق ( صحف , مجلات , كتب )  امام الزحف المتواصل والصاروخي للانترنت  . وان الرأي والثقافة عموما سوف تعتمد بشكل لا مفر منه على المواقع الألكترونية .
ما يحزنني هو اننا بقدر حاجتنا الى الثقافة فاننا لا نملك حتى الآن مشروعا ثقافيا حقيقيا ينتشلنا من مستنقع العنف الذي نغطس فيه حتى الأنف. هنالك فراغ ثقافي مروع وامية مستبدة وكلمة منتهكة بلا وزن ولا قدر . كانت الكلمة في السابق تعاني من الخنق بسبب الرقابة وانظمة التعسف والخوف . وحين زالت الرقابة واصبحنا خارج الانظمة التعسفية دخل علينا مرض جديد  وتفشت ظاهرة جديدة لخنق النصوص بالصورة التي ترونها .
تخيل انك  جائع  وتدخل مطعما للكباب ,  وحين تجلس على الطاولة تنتظر احدهم ليأتيك بالمقبلات ,  يتقدم اليك صاحب المطعم نفسه حاملا سلة خوص انيقة . تتطلع اليها فتجد ما يلي :علبة مسحوق غسيل برسيل , نظارات شمسية , معجون حلاقة , زيت محرك السيارات ومزيل لشعر الأبط . يسألك ان تحجز لك بعضا منها لأن الكمية محدودة  . هل سوف تشتهي ان تأكل ؟ هل ستبقى جالسا في هذا المطعم ام تغادر خلسة . لا شك ان معك الحق في الهروب . أنك جئت لأجل الكباب , ولابأس  ان يحيط به شئ ما يدفع شهيتك الى الامام  : جرار فخار مملوءة طرشي ,  قلائد ثوم او فلفل  مجفف , رؤوس بصل او طماطة  منثورة هنا وهناك  . تريد ان يسود منطق الكباب في المكان  . الكباب هو المتن وليس الهامش .
ما يحدث في المواقع يشبه الى حد بعيد ما حدث في الموسيقى بعد دخول الفيديو كليب . في السابق كان الصوت هو جواز مرور المطرب  او المطربة الى عالم الغناء اما بعد الفيديوكليب ودخول التقنيات الصوتية فقد تراجع الصوت ولم يعد له مكانا مقابل صعود الصورة ( الجسد تحديدا ) . ولأن امكنة الدعارة الرسمية محدودة خصوصا في بلداننا فقد  اوحت ظاهرة الفيديو للكثير من القوادين بأفكار رائعة واصيلة . لماذا لا نوسع عملنا ونفتح الباب على مصراعيه , وبدل المضاجعة الواحدة سيكون هناك مئتي مليون في المرة الواحدة  . المسألة بسيطة جدا بدل ان نقول عاهرة سوف نطلق عليها اسم مطربة  وبدل كلمة مضاجعة سوف نقول اغنية . لقد نجحت التجربة ايما نجاح وحصد القوادون الاموال الطائلة وسكت الجميع اذ أن  العملية لا شائبة فيها فالأمر كله يدور في  خانة الفن . هذه المناورة الجهنمية تسجل لصالح القوادين. ولكن ماذا نتج عن هذا الفتح المبين : تخريب تام للموسيقى   . لقد شاهدت بخبث ضبع وبحرقة  طاعنة في السن مجموعة  من هذه الاغاني  بدون صوت ( اي صورة فقط ). تعمدت ان أخمن كلمات الأغاني من خلال مراقبة  حركات  المغنية فوجدت ان جميعها مكونة من ثلاثة كلمات فقط  . ان الحياء يمنعني عن ذكر هذه الكلمات .  هذه( المغنية ) تجني في الحفلة الواحدة مبلغا يعادل ثلاثة جوائز بوكر ( الجائزة السنوية للرواية في العالم العربي وقيمتها 50 الف دولار ) .
وهكذا تصبح الموسيقى هي بوابة للدعارة  مثلما تصبح الكلمة بوابة للتجارة . 
. لسنا ضد الدعارة حتى لو لم نكن من ممارسيها ولا مروجين لها .بل اكثر من ذلك اننا نعترف دون وجل ان  الدعارة هي مهنة  شأنها كباقي المهن وهي من اقدم المهن التي عرفتها البشرية   ومن واجب السلطات حمايتها طالما كانت هنالك حاجة لها . ولكن ينبغي ان يكون لهذه المهنة مواقعها الخاصة  . وينبغي ان لا تخلط هذه المهنة بالفنون وبالذات الموسيقى والرقص والتمثيل . وكما اننا لسنا ضد الدعارة فأننا لسنا ضد التجارة بشرط ان تكون  دعارة صافية وتجارة صافية  غير مخلوطة بشئ آخر .
  
 الثقافة عندنا بائسة وفقيرة ومثيرة للسخرية هذا ما يفسر سطوة العنف وهيمنته . ما تصرفه الحكومات العربية من ثروة النفط على المسلحين  يعادل ما تصرفه اوربا على الثقافة. ولو صرف واحد بالمئة من حصة المسلحين على الثقافة لكان حالنا افضل مئة مرة  . يمكن حصر الثقافة في العراق في ممر واحد طوله مئة متر اسمه شارع المتنبي , يجتمع فيه كل جمعة عدد من الاشخاص يتأبط كل منم كتابا , وفي جيبه ثمن قدح الشاي الذي سيتناوله  في (مقهى الشابندر) ,  وحين يجوع  لا يملك القدرة على الدخول الى مكان يقدم لحما حقيقيا مثل ( كباب  زرزور) فيلجأ الى (كبة السراي) التي هي مزيج من المصارين( الامعاء) وثقافة البروليتاريا  .  هؤلاء هم ممثلو  الثقافة في العراق والذين يمكن بكل سهولة جمعهم في ثلاث باصات خشب ورميهم خارج الحدود ( هكذا لوح السيد كامل الزيدي عضو مجلس محافظة بغداد  بوجه مؤسسة المدى ) . اما اسهام وزارة الثقافة في الثقافة  فهي موضوع لوحده . يكفي ان نقول ان وزير الثقافة هو وزير الدفاع  .
امام هذا الواقع المؤلم  يصبح البديل هو المواقع الثقافية التي لا يصلها كامل الزيدي ولا يتحكم بأدارتها وسياستها ولا تخضع للمحاصصة . انه شئ خارج متناول الفساد وكل اشكال التعفن والهوس الطائفي . لقد وفرت لنا الحضارة الانسانية المتمثلة بتكنولوجيا الاتصال مثل هذا الجو المثالي. وفرت لنا   فرصة للأرتقاء وخلصتنا من كثير من القيود والعراقيل التي تقف بوجه الكلمة الحرة ولم يبق امامنا سوى العمل الجاد والمنزه من الاغراض الشخصية . ينبغي ان نكون بمستوى هذا التحول الكبير .
نحن بأمس الحاجة الى مشاريع ثقافية جادة .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب