19 ديسمبر، 2024 5:00 ص

مواطنون لا يبنون وطن !!!

مواطنون لا يبنون وطن !!!

التسيب الإداري ظاهرة من الظواهر التي تبرز في أغلب الإدارات الحكومية ويمكن تعريفه بأنه (إهمال الموظف للواجبات المنوطة به والمنصوص عليها في القوانين والتعليمات والقرارات التي تنظم الوظيفة العامة بشكل يؤدى إلى مردود سلبي على الإنتاجية وسير العمل).

وقد ساهم في تفاقم ظاهرة التسيب الإداري وارتفاع معدلاتها ترك الموظفين لأماكن العمل أثناء ساعات الدوام الرسمي بسبب اضطرارهم للخروج إلى الأسواق لتلبية حاجاتهم الضرورية التي تلزمهم، وكذلك عدم بقاء الأفراد ذوي المراكز العليا والمهمة في مناصبهم لفترة تمكنهم من إثبات وجودهم وخبرتهم . وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

إنَّ كلَّ ذلك ناتج عن أسباب عدة .. كسوء التنظيم الإداري وضعف الإدارة وعدم قدرتها على استثمار طاقات الموظف وقابليته في العمل الوظيفي وعدم تفهّم بعض المواقف والظروف التي يمر بها بعض الموظفين، التي تتخذ مظاهر وصور عدة كالغياب وتضخّم الموارد البشرية العاملة في دوائر الدولة ومؤسساتها العامة .

إنَّ كلَّ ذلك يقود بشكل لا مِرَاءَ منه إلى ضعف إنتاجية الموظف والإدارة على حد سواء ، مخلفة آثاراً اقتصادية واجتماعية وإدارية واضحة في العمل الوظيفي. (1)

حثت هيئة النزاهة على اعتماد استمارة لائحة السلوك الوظيفي المكلَّف بتوقيعها كلّ منتسبي الدوائر الرسمية والقطّاع المختلط .. تمثل ضمانة قانونية لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين، مشيرة إلى أنه يجب على كل موظف توقيع اللائحة وحفظها في ملفه الشخصي بالدائرة .

إن اللائحة تنطوي على ضمانات قانونية وأخلاقية لتحصين الموظف من الانزلاق إلى مهاوي الفساد وتجاوز صلاحيات وظيفته ومسؤولياته أو التورط بالتصرف غير المشروع بالمال العام أو الإثراء بالاستحواذ على ذلك المال أو ابتزاز المواطنين وهدر أموال الدولة.

وإنَّ بنود اللائحة تحرِّم على الموظف التمييز بين المراجعين لأية أسباب أو اعتبارات ولا تتيح له استغلال صلاحياته الوظيفية لتحقيق مكاسب شخصية أو البوح بأسرار الدولة أو الدائرة وتلزمه بتكريس كامل وقته الرسمي لأداء الخدمة العامة.كما أنَّ لائحة السلوك الوظيفي التي يجب على كل موظف توقيعها وحفظها في ملفه الشخصي بالدائرة توجب على الموظف احترام أخلاقيات الوظيفة والالتزام بضوابط العلاقات بين المافوق والمرؤوسين والحرص على تطوير كفاءته المهنية وقدراته وإمكاناته بما يؤمِّن تصعيد الأداء وفق أفضل صيغ العمل ، وتمنعه من القيام بأية أنشطة أو علاقات عمل مع أطراف خارجية تفضي إلى تضارب المصالح وتسيء إلى مهام ومسؤوليات دائرته . ويعد توقيع اللائحة شرطاً من شروط التعيين والاستمرار بالخدمة أو التصرف بخلاف التزاماتها تعرّضُ الموظف إلى المساءلة والعقوبات وفق الضوابط الإدارية وبنود القوانين النافذة التي تصل إلى حد السجن أو العزل أو كليهما .. وفقاً لدرجة الأخطاء المرتكبة.وكانت هيئة النزاهة قد أعلنت بوقت سابق أن تدقيقها لجزء من لوائح السلوك الوظيفي لمنتسبي دوائر الدولة أفرز نتائج إيجابية في ضبط عدة مخالفات غير قانونية، حيث بيّنتْ في بيان لها أن من حالات التجاوز على القانون التي رصدتها دائرة الوقاية بالهيئة أثناء تدقيقها عدد من لوائح السلوك الوظيفي وجود تعيينات بلا موافقات وزارية أو أوامر إدارية وبوثائق مزوّرة وحالات إزدواج وظيفي. (2)

والحالة هذه ؛ فإنَّ هنالك لمحة فساد لم تنتبه إليها الجهات المعنية في الدولة العراقية .. أو تتغاضى عنها لأسباب غير معلنة ،أو غير مصرّح عنها ، لابد للقلم الحرّ أن يسلط الأضواء على ما تخبّأ منها في الزوايا المعتَّمة !!!

عندما كان الحصار والجوع و رواتب الموظفين الزهيدة ، كان موظفون يعملون بإخلاص في دوائر الدولة التي كانت تخدم المواطنين لا نظامَ صدام حسين .. كموظفو الماء والكهرباء والنقل والاتصالات والصحة والتربية والتعليم والصناعة والتجارة وما شابهها ، بينما كان غيرهم من الموظفين يهاجر خارج العراق طلبا” للكسب من خلال العمل في ليبيا أو اليمن ، أو سعياً وراء المعونات الإنسانية في دول الغرب .. بحيث يتحسّنُ بهؤلاء الحال لدرجة أنهم يصبحوا قادرين على تحويل مئات الدولارات إلى أهلهم في العراق ، فيتنعمون بتصريفها إلى آلاف الدنانير ، ويغرون العديد من الفتيات العراقيات اللاتي يفضِّلنهم على عراقيي الداخل بالزواج. بعد زوال حكم صدام عاد أكثرهم إلى أرض الوطن .. أحتسبت لهم سنوات خدمة جهادية تعويضية وهم لم يكونوا لا سياسيين ولا معارضين ، وتمتّعوا بمناصبَ و تعويضاتٍ أفضل من موظفي الداخل الذين كانوا ومازالوا يكدحون . هذه الحالة التي حصلت في دوائر الدولة العراقية بعد 2003 دمَّرتْ الإخلاص لدى موظفي الخدمة المستمرة ، عندما رأوا أنَّ لا تقييمَ و لا مفاضلة بين الكادح الحقيقي و المنتفع اللاهث وراء القصع الدسمة .. الدخيل على دوائر الدولة إن صحَّ التعبير.. عديم التاريخ الوظيفي !!

هناك مواطنون عراقيون هاجروا خلال حصار صدام هرباً من الجوع لا من مطاردة أمنية أو ظلم واقع عليهم سياسيا” ، و هؤلاء أنفسهم الذين عادوا ليتنعموا بعراق اليوم بزعم أنهم هاجروا وتركوا وظائفهم بسبب ظلم نظام البعث لهم ، و اﻵن عندما عانوا من الوضع اﻷمني ، راحوا يستجمعون ما يسمى بسني (خدمتهم الجهادية) وهي ليست جهادية .. هي خدمة وهمية في واقع الحال ، لا يصحُّ أن توازى وتقارن وتناظر بخدمة موظف أدّى خدمة وظيفية فعلية في الدولة العراقية ، وراحوا يحتسبون سنوات خدمتهم ، بحيث ترقى رواتبهم التقاعدية وبخدمة ممتازة تناهز اﻷربعين عاما” أقرانهم العاملين الفعليين ، وهم لم يخدموا بأية وظيفة منذ التخرج (إن لم تكن شهاداتهم الدراسية مزوّرة) ، ولعلَّ أفضلهم خدمَ سنة أو سنتين أو ثلاث على أكثر الاحتمالات ، واعتبرت لهم سنوات الانقطاع خدمة جهادية علاوة و ترفيعاً و راتباً تقاعدياً ممتازا ، بينما تذهب الحكومة إلى تشذيب و تقطيع وقصِّ خوافي وقوادم مرتبات الموظفين الخدميين القدامى .. الذين خدموا الدولة والمواطن فعلاً ، وعانوا الأمرّين !؟

اليوم ؛ وبعدما تعرّض البلد إلى متاعب غير متاعب الحصار وويلات الحروب ، كالإرهاب أو التقشف وغيرهما إنشكف أولئك المنتفعون .. من موظفين وغير موظفين ، فنراهم يعاودون الهجرة مرة أخرى ، بزعم أنهم نازحون من محافظات ساخنة .. زيفاً في أكثر الأحوال . فهل هؤلاء هم المواطنون الذين يذودون ويبنون وطنهم في الأزمات ، أم مَنْ ؟! ..

أولئك ؛ الوطن بنظرهم بقرة حلوب يتركونها عندما تمرض و يحلبونها عندما تشفى!!!

وهؤلاء ؛ الوطن بنظرهم أمٌّ رءوم .. حملتْ وتمخّضتْ وسهرتْ وأرضعتْ ، حتى هَرِمَتْ فاستحقتْ رعاية أبنائها النجباء !

اليوم تغيّرت الحال ؛ فبعد أن كان العراقي يلهث وراء القصع الدسمة في خارج العراق أيام حصار و جوع صدام ، صار يلهث وراء اﻷمن و اﻷمان بالهجرة إلى بلاد الغرب طلبا” للجوء اﻹنساني بعد زوال مبررات اللجوء السياسي . عليه ؛ فعراقيون من هذا النوع يهاجرون مرة من الجوع و أخرى من الخوف لا يبنون وطن!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مجلة التشريع والقضاء

(2) شبكة أخبار العراق

أحدث المقالات

أحدث المقالات