النظام العراقي السابق بنى منظومته وأجهزته المخابراتية بأموال طائلة درت على العراق في مطلع السبعينيات من عائدات النفط بعد تأميمه من الشركات الاحتكارية , وهذا جاء منسجماً مع عقلية وسياسة النظام ونهجه في الحكم واساليبه في أدارة دفته . في تجربة شخصية لي العام ١٩٨٧ . كنت معتقلاً في بناية الشعبة الخامسة التابعة الى مديرية الاستخبارات العسكرية لانتمائي الشيوعي , وكان الذي يجري تحقيقاً معي في ساعات متأخرة من الليل الموحش والمخيف ( خليل العزاوي ) , وكما عرفت لاحقاً ومن خلال الوثائق التي سربت بعد احتلال العراق , كان رجلاً مهماً ومدير الاستخبارات العسكرية في لحظات الخوف والموت بدهاليز الشعبة الخامسة , ما اعرف الى الان كيف لاح أسمه لي أنه أحمد العزاوي وليس خليل . هناك أطنان من الوثائق تركها النظام مركونه ومغبرة في دهاليز الاعتقال والموت فسيطر عليها الامريكان في دوائر القمع وسلموها الى الاحزاب التي أتت تحت أجنحتهم تحوي على أسرار وصفقات وعمالات خطيرة تهم عمل المعارضة العراقية السابقة وحجم الاندساس ووكلاء أمن ومخابرات واستخبارات داخل تنظيمات أحزاب المعارضة وممن تبوأ مراكز قيادية مهمة وشاركوا في اعدام ناس وتحطيم عوائل كاملة وتدمير عقلية مجتمع كامل وهو يئن تحت سيطرة الخوف والرعب مما حطموا من بنائه الداخلي في قوته الايجابية وبناء مجتمع سليم ومعافى .. لماذا لم تطالب منظمات مجتمع مدني ودوائر حقوق أنسان ولجان نزاهة وأحزاب سياسية بالإفراج عن تلك الوثائق المخفية وفضح محتوياتها الخطيرة امام الملأ ؟؟. في مساء يوم صيفي رطب , كنت منهكاً من اليوم الذي سبقه وما لاقيته من تعذيب وحش ومرعب , نقلت الى مديرية الأمن العامة وفتحوا معي أضبارة جديدة بتحقيق جديد لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب باساليب ورعب ومعلومات التحقيق في الشعبة الخامسة في مدينة الكاظمية , فكانت ألية وعمل تلك الاجهزة مركبة على بعضها وتسعى كل واحدة منها على حساب الاخرى بتحقيق انجازات على حساب قتل الانسان . فهذه التركيبة المخابراتية المعقدة في أليات عملها وتحركاتها أمتدت الى محطاتهم المزروعة في دول العالم . فاكثر من جهاز ومديرية تتحرك على أرض بلد معين ولا هناك تنسيق بينهم بل لايسمح أن يتعارفوا على بعضهم , وان تمت ذلك سوف يقومون باجراءات التنقلات اللازمة لتفادي الفضيحة . مره سألت رجل الاستخبارات العسكرية علي منصور الدايني في مدينة مالمو عن موقع الكاظمية ففادني أن في هذا الموقع توجد فيه ١٦ شعبة من مجموع ١٧ شعبة تابعة للجهاز ولم نعرف بعضنا بل لايسمح لنا بإقامة علاقات مع بعضنا وهذا ضمن القسم الذي قسمنا عليه في انتمائنا للجهاز , إضافة الى ذلك في حالة تسريب أي معلومة مهما يكن حجمها أو يبلغ ضررها ستلاقي عقوبة الإعدام في حالة افشائها .
بعد أن قضيت أيام من التعذيب والخوف في مديرية الامن العامة أعادوني ثانية الى بناية الشعبة الخامسة في مدينة الكاظمية وبنفس الزنزانة رقم ثلاثة , ألفت تلك البطانية السوداء ودبيب القمل عليها , وبعد أن أنهوا مجريات التحقيق الأخيرة معي في بناية الشعبة الخامسة ونتائجها التي لم ترضيهم من مؤشرات تهديدهم لي بسحقي وقتلي مع أهلي , بعد فترة قصيرة أحالوني الى ( محكمة الثورة ) السيئة الصيت مع مجموعة يقدر عددهم ١٢ معتقلاً من تنظيمات حزب الدعوة , نقلونا من بناية الشعبة بسيارة مغلقة ومظلله مقيدي الايادي بسلاسل حديدية كل معتقلين مع بعض ومعصوبي الأعين , كانت مجموعة جاسم ونهاد مما تختزنه ذاكرتي من أسماء , دفعونا الى أقفاص الاتهام وجهاً لوجه أمام رئيس المحكمة ( عواد البندر ) . وبدأوا بقراءة لائحة الاسماء مع كل واحد والتهمة الموجه اليه , وفي موقف لم يمر على البال أدى الى فوضى مفاجئة عمت قاعة المحكمة صرخ أحدهم سيدي مخاطب رئيس المحكمة .. أشلون يصير ومحكمتكم الموقرة تستند في ادعاءاتها على واحد لوطي وساقط خلقياً ؟. قال عواد البندر .. ولك من هذا الوطي. سيدي جاسم وجاسم هو المعترف على المجموعة في الانتماء لحزب الدعوة والتخطيط في تفجير معسكر عراقي .
بدأ جاسم وبكل جرأ وشجاعة يتحدث عن أنحرافه الاخلاقي وعم الهرج والاستهزاء والتصنيف وقهقهات الضحك , كنا جزء من العرض المسرحي .. مما دعا رئيس المحكمة الى تأجيل جلسة المحاكمة .. وهنا كتب لي عمر جديد . أعادوني الى نفس الزنزانة المخيفة والتي تحمل رقم ثلاثة . أنتظر قرار الموت باي لحظة حسب تبليغات الحراس لي , أنه سيتم اعدامي , ولم يعد هناك مخرج ينقذك بعد أن دنت بخيانة الوطن . كنت متمسك بموقفين أما الموت وهذا ما كنت أتمناه بأي لحظة أو الخلاص من قبضتهم نظيف القلب واليدين والضمير , فلم أسبب أذى للعوائل والأصدقاء الذين ساعدوني في الاختفاء والتنقل , بيت عبد الخالق مطلك الدليمي في مدينة الشعب , وعائلة الحاج غازي في مدينة الكاظمية , وعائلة بيت منصور في مدينة الشعلة , وعائلة عبد الرحمن دبش في مدينة الحرية الثالثة , وبيت علي وعالية في مدينة الدوره , وبيت سعد البياتي في شارع ٥٢ خمسين , وبيت قصي ( أبو نغم ) في مدينة النهروان . وعشرات عوائل أخرى .
قرأت سلسلة حلقات برزان التكريتي الأخ غير الشقيق لصدام حسين , والذي رافقه منذ كان عمره ١٢ عاماً وفي انقلابات البعثيين المعٌرة في القصر الى أن أصبح رقم مخابراتي مخيف في العراق . يكتب اليوم مذكراته يتنصل بها عن أي مسؤولية لحقت بالعراقيين الحيف والظلم وكأنه ذاكرتهم مثقوبة , يطلع علينا السيد برزان أنه كان حمامة سلام وسط صقور جارحة , وكان هو يحلق ضدها أي كان ضد سياسة أخيه صدام ونظامه , ربما نسى من كان يصدر الاوامر الى المجرم جاسب السماوي في قسم الاعدامات في سجن أبي غريب . الى الأن برزان لم يتحفنا في أوراقه الغابرة حول ملف الشيوعيين والغدر بهم وقتلهم وشواهد قبورهم . والى الأن لم يكشف لنا , وهذه مسؤولية أخلاقية وتاريخية حسب ما يدعي كان نهج ممارسات السلطة ورموزها في تعاملهم مع الشعب العراقي . كانت هناك صحف عربية ومجلات مشتراة من البعث وبتمويل كامل لتلميع وجه النظام والاف من العملاء والجواسيس والوكلاء الموجودين في الخارج وشخصيات ومنظمات وأحزاب راحوا مع عورتاهم بذهاب النظام . قرأنا أجزاء مهمة من كتاب ( مهمة من بغداد ) بمساعدة صديق يجيد اللغة السويدية بشكل جيد بمدلولها السياسي ووجدنا في صفحات الكتاب معلومات مبنية على أراء وأحتمالات وتقديرات بعيداً عن الحقائق أي ضمن سياقات حبكة الهدف والاشاعة وتوجد دلائل ايضا تفقأ بها الارض .