” مهمة السلام ” ، التي قام بها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ، الى كل من كييف وموسكو وبكين وواشنطن ، والتقى خلال زيارة لواشنطن للمشاركة في قمة الناتو، بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ، بعد ذلك ، قدم أوربان في ختامها تقريره السري ً إلى رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، أعرب فيه عن مخاوفه بشأن مستقبل الصراع الأوكراني، والتحذير من أن “الشهرين المقبلين على خط المواجهة في أوكرانيا سيكونان أكثر صعوبة ودراماتيكية أكثر من أي وقت مضى.”
الاتحاد الأوربي حاول النأي بنفسه عن الزيارة، وسارع الى التأكيد إن المجر ليس لديها تفويض للمفاوضات بشأن أوكرانيا ، وانه “لا يمكن إجراء أي نقاش حول أوكرانيا بدون أوكرانيا” ، ليناقض نفسه بنفسه ، فقبل أيام شارك الاتحاد بما يسمى مؤتمر سويسرا للسلام في أوكرانيا ، دون توجيه الدعوة لروسيا لحضور المؤتمر ، كأحد أطراف الازمة في أوكرانيا ، التي يعتبرها رئيس المجلس الأوروبي إلى أنها ضحية تمارس حقها المشروع في الدفاع عن النفس.
وفي رسالته إلى تفاجأ قادة الاتحاد الأوروبي، الذين اتهموه بانتهاك قواعد معينة ، وأن زيارته لروسيا تتعارض مع معاهدات الاتحاد الأوروبي ، التي تحظر أي إجراءات “من شأنها أن تعرض للخطر تحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي” ، تفاجئوا بدعوة أوربان الاتحاد الأوروبي إلى استئناف الاتصالات الدبلوماسية المباشرة مع روسيا وبدء المفاوضات مع الصين بشأن “مؤتمر السلام المقبل” ، والتأكيد أنه خلال زيارته لموسكو لم يطرح أي مقترحات ولم يعبر عن رأي واحد باسم المجلس الأوروبي أو الاتحاد الأوروبي، واصفا كل التصريحات المخالفة بأنها لا أساس لها من الصحة.
والغريب في ردة الفعل الاوربية، هو انه إذا كانت مبادرة أوربان للسلام تهدد أهداف الاتحاد الأوروبي، فإن هدف الاتحاد الأوروبي في أوكرانيا هو الحرب؟ ، وإذا حكمنا من خلال رد فعل البيروقراطية الأوروبية، فإن الأمر كذلك ، وكما نرى ، يقومون بحشو نظام كييف بالأسلحة، ويحرضونه على القتال “حتى آخر أوكراني” من أجل “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا” بأي ثمن، وهذا نوع من “الغرابة ” و (لطالما اعتُبر أوربان “غريب الأطوار” في الاتحاد الأوروبي، ليس فقط بسبب موقفه بشأن أوكرانيا) ولكن لطرحه اقتراح للسلام.
لقد هاجم الجميع حرفيا أوربان (باستثناء زميله السلوفاكي روبرت فيكو، الذي، على العكس من ذلك، دعم رئيس الوزراء المجري) ، وطالب أعضاء البرلمان الأوروبي بحرمان المجر من حقوق التصويت في الاتحاد الأوروبي ، فهناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات حقيقية، مثل تعليق حقوق التصويت المجرية في المجلس، حيث أظهرت الممارسة أن مجرد الإدانة اللفظية لهذا الوضع لا يمكن تطبيقها ، بالإضافة إلى ذلك، تناقش الصحافة الأوروبية بنشاط حرمان بودابست من رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن الخدمة القانونية ذكرت بالفعل أن هذا مستحيل من الناحية القانونية ، أما الحرمان من حق التصويت، فهو ممكن، لكنه صعب للغاية، لأنه لا يوجد حظر مباشر على التواصل مع المسؤولين الروس، بالإضافة إلى ذلك، لم يصنف أوربان زياراته أبدًا على أنها زيارات رسمية لممثل عن الاتحاد الأوروبي، وكل شيء فالحديث عنه “قوى مشوهة” ليس أكثر من كلام.
وعلى العكس من موقف الاتحاد الأوربي من ” مهمة” أوربان ، الذي وصف محادثاته مع الرئيس بوتين بانها مهمة وصادقة ، رحبت روسيا بهذه الخطوة التي جاءت من وجهة نظر الرئيس الروسي ، في ظل وضع جيوسياسي صعب ، ووصول العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي الى أدنى مستوياتها ، واعتبرت موسكو زيارة أوربان بمثابة محاولة لاستعادة الحوار مع الاتحاد الأوروبي ، لتحمله رسالة تشدد على ان تنفيذ مبادرات السلام الروسية سيجعل من الممكن وقف الأعمال القتالية وبدء المفاوضات .
وفي الصين سمع رئيس الوزراء الهنغاري ، مايود سماعه ، باستعداد بكين للتعاون معه للمساعدة في إيجاد حل للأزمة في أوكرانيا ، لحشد مزيد من القوى لدعم السلام، ورفع أصوات أكثر عقلانية، والمساعدة في دفع الأوضاع (في أوكرانيا) نحو تسوية سياسية ، وأن الأمر الأكثر إلحاحا اليوم والهدف الواقعي ، هو الإسهام في التهدئة السريعة للوضع في أوكرانيا، وأن تتوصل جميع الأطراف إلى توافق في أقرب وقت ممكن ، بشأن أمور مثل تجنب توسيع رقعة القتال وتصعيد الأعمال العدائية والاستفزازات، فضلا عن تهيئة الظروف لوقف إطلاق النار واستئناف مفاوضات السلام.
وليس سراً أن أوربان وترامب ليسا صديقين فحسب، بل إنهما أيضاً شخصان متشابهان في التفكير فيما يتصل بالعديد من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا ، ولعل أوربان هو الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي يعرب علناً عن رضاه عن الطريقة التي تتطور بها العملية الانتخابية في الولايات المتحدة، حيث لم يعد هناك، على ما يبدو، أي بديل واضح لانتصار الجمهوريين ، وفي حين يشعر بقية زعماء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ، بالذعر علناً بشأن عودة ترامب الوشيكة إلى البيت الأبيض، مدركين أنهم سيضطرون إلى صرف الأموال ، وكذلك إعادة النظر في النهج المتبع تجاه القضية الأوكرانية.
إنه أمر واقعي إلى حد ما، بمعنى أن أوربان سياسي مستقل بما يكفي ليكون مبعوثًا لشخص ما، أو حتى رئيس الولايات المتحدة المستقبلي ففي نهاية المطاف، يتحدث عن نهاية الصراع الشخص الذي من المرجح أن تنتقل إليه مقاليد الحكم في الغرب الجماعي ، ويشكل هذا تهديداً بكسر النمط الذي ظل الأوروبيون يرعونه لسنوات، معلنين أن أي خروج عنه يعتبر هرطقة و”تناقضاً مع أهداف الاتحاد الأوروبي” ، لأن العديد من الناس في أوروبا يتغذون ببساطة على الصراع الأوكراني، ويعتبر إنهاء هذا الصراع بمثابة الموت بالنسبة لهم ، أخيرًا، يشعر الكثيرون بالمسؤولية الشخصية عن الحرب ، ويدركون أنه فات الأوان بالنسبة لهم ولا جدوى من “القفز” وتقديم الأعذار، لذلك سوف يستمرون حتى النهاية، حتى أنهم يدركون عدم جدوى جهودهم.
وبشكل عام، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن أي شيء سيتغير اليوم، بغض النظر عن الرحلات التي يقوم بها أوربان، ومهما كانت التصريحات التي يدلي بها ترامب ، وحتى لو كان أقل تقييداً بكثير، كما كان الحال في الولاية الأولى للرئاسة، فقد ذهبت الأمور إلى أبعد من أن يتم إصلاح كل شيء بلمسة إصبع ، ومن الواضح أن استراتيجية ترامب تتمثل في فرض شروط السلام على روسيا، وأهمها الحفاظ على أوكرانيا ، ووضعها المحايد المفترض، والذي سيقدمه ترامب على أنه “صفقة السلام”، مختومًا بـ “خمسين حرفًا” أخرى، يرميها الأمريكيون بسهولة في سلة المهملات عندما يحتاجون إليها.
لم يكن ترامب “مؤيدا لروسيا” قط، بل كان مؤيدا لأميركا، ورؤيته مختلفة تماما عن رؤية الاخرين ، وعلى نحو مماثل، فإن أوربان ليس “موالياً لروسيا”، رغم أن القضايا الأوكرانية أقرب كثيراً وأكثر أهمية بالنسبة له بسبب الحدود المشتركة مع أوكرانيا، التي يعيش على الجانب الآخر منها المجريون ، وهدفها هو الحفاظ على أوكرانيا باعتبارها منطقة عازلة بين أوروبا وروسيا ، وذات يوم قال أوربان نفسه إن بلاده لا ترغب في أن تكون لها حدود مشتركة مع روسيا، لأنها تحتفظ بذكريات سيئة عن الأوقات التي كانت فيها حدود مشتركة مع الاتحاد السوفييتي ، لذلك لا ينبغي التفاؤل ، وبما أن حتمية التغيير في الغرب أصبحت واضحة، فيتعين على الجميع الاستعداد لاستئناف الحوار حتى لا يخدعون مرة أخرى وإقناعهم بالتوصل إلى “تسوية” غير مربحة.
وفي الوقت نفسه، فمن المحتمل أن رحلة أوربان لم تكن موضع ترحيب من قبل بعض القادة الأوروبيين، ولكن لم يُنظر إليها بعداء ، وربما فعل أوربان ما كان يود الآخرون أن يفعلوه، ولكنه لم يجرؤ، وإذا كان هناك مثل هذا الشخص الذي ليس لديه ما يخسره، فلماذا لا يستخدمه؟ ، وهذا لا يعني ذلك أن أوربان ليس لديه ما يخسره، بمعنى أن المجر تخضع باستمرار لقيود من بروكسل لمجموعة كاملة من الأسباب الناجمة عن اختلافات أعمق بكثير من أوكرانيا – المواقف تجاه الهجرة، والمثليين، والحمائية الاقتصادية ، ولكن رئيس الوزراء المجري يخاطر بوعي، مدركًا أنه إذا نجح (ويمكن اعتبار النجاح هنا ليس تسوية الأزمة الأوكرانية، التي لا يؤمن بها هو نفسه، ولكن وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة)، سوف يخرج فجأة من “الخروف الأسود” ، وقد يتبين أنه نذير لمستقبل أوروبي جديد، ومبعوث لزعيم جديد للغرب الجماعي ، والذي، بالمناسبة، لديه ذاكرة جيدة بمن دعمه دائمًا ومن رشقه بالطين وقلبه ضد القادة الآخرين ، والخبير السياسي والعسكري المجري بيتر دوناي مقتنع بأن أوربان نسق زيارته إلى موسكو مع ترامب، لأن نجل ترامب كان في بودابست في اليوم السابق والتقى بأوربان.
انتهت جولات أوربان ، وان رافقتها تصريحات تصعيدية ، إلا أن ثمار ” مهمة السلام ” ، بدأت تجني ثمارها ، فقد هبت رياح معاكسة على كييف ، وفاجأ الرئيس ” المهرج ” فلاديمير زيلينسكي ، في تقرير نشرته صحيفة “لو باريزيان” الفرنسية ، بأنه يود حضور ممثلين عن روسيا في القمة المقبلة حول الصراع دون تحديد أي موعد ، وهو نفسه من جرم بقرار منه كل من يحاول الدخول في مفاوضات مع روسيا ، فهل هذه الدعوة الزيلينسكية الغريبة “خدعة” أم “اعتراف بالضعف؟”.
أما على هامش اجتماعات مجلس الأمن الدولي الأخيرة حاول الغرب استكشاف آفاق فتح مفاوضات مع روسيا بشأن التسوية في أوكرانيا ، وعلموا أن الغرب لن يتمكن من إرغام موسكو على المشاركة في “قمة السلام” المقبلة ، عبر استمراره بممارسة الضغط على روسيا والترويج لما يسمى بـ”صيغة زيلينسكي”، ووصفت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا ، ذلك بأنها “فكرة محكوم عليها بالفشل”.