23 ديسمبر، 2024 1:35 ص

مهزلة العقل العربي!!

مهزلة العقل العربي!!

تتوارد عشرات المقالات التي يَحسب كتابها بأنهم محللون ومفكرون , وأصحاب رأي فصل عمّا يدور في عالمنا العربي المتفاقم الأحداث والتطورات , وجميعها تشترك بأنها تنكر مواجهة الواقع وأسبابه الجوهرية المباشرة وتغور بعيدا في الأزمان الغابرة , لتبرر ما يجري وتحسبه تحصيل حاصل , ولا جديد في الأمر.

هذه المقالات تختصر الوجود العربي في فترة زمنية منقرضة , وكأن الحياة تجمدت فيها , وأصبحت الأجيال كالمومياءات المحنطة في توابيت أحداثها وحسب.

فاليوم وردتني مقالة من ذات السياق وتدّعي البحث في الجذور والمُسببات وتريد إقتلاعها , أي أن تلغي تأريخ العرب لأنه حسب رؤية كاتبها , عبارة عن حمامات دم , وكأنه لم يقرأ تأريخ الأمم والشعوب , ولم يتعرف على التأريخ الأوربي وتأريخ شعوب شرق آسيا وأفريقيا وغيرها من القارات.

وأنا أقرأ هذه المقالة تساءلت : هل أن فرنسا أسلمت أمرها للماضي عندما حصلت فيها أحداث الشغب العنيفة , وقالت: هذا مفهوم لأننا إستعمرنا بلدانهم وقهرنا شعوبهم , أم أنها تصدت للمشكلة بعلمية ودراسة وتحليل وبحث للوصول إلى المعالجات والحلول؟!!

كما تساءلت : هل أن الحكومة الأمريكية تهاونت وبررت أحداث ميزوري بأنها ناجمة عن التأريخ وما حصل في الماضي , وهذا أمر لابد منه , أم أنها تفاعلت بطاقاتها الدستورية والتشريعية والأمنية , وأعلنت أن التصدي للمظاهرات والإعتصامات مهارة وعلم , وقد تم تغييب هذه الآليات؟!!

إنّ العلة في التفكير العربي لأنه يرزخ في أتون الماضوية ولا يمكنه التفاعل مع عصره , ففي مسألة العنف والإرهاب , يتناسى الأسباب المعاصرة , كعجز النظام العربي على مدى قرن في إقامة الحياة الدستورية وسيادة القانون , وفشل جميع الأحزاب في تحقيق مشاريع وطنية ذات قيمة إقتصادية وعلمية معاصرة , وإهمال الثقافة والبحث العلمي , وزيادة عدد الفقراء والمحتاجين , وإنعدام فرص العمل , وهيمنة البطالة , وتنامي اليأس في نفوس الشباب , والجور والظلم والمحسوبية والفساد , وغيرها مما لايحصى من الخطايا والآثام المتراكمة المتعاظمة , لكننا ننكرها ونتجاهلها , ونعلن أن سبب مشاكلنا هي الدولة الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية , وما قبلها بكثير جدا وما بعدها وما بينها , بل أن البعض يرى أن قابيل هو سبب مشاكلنا!!

ومن عجائب هذا التفكير أن أصحابه لايريدون العيش في الحاضر المعاصر , وإنما يدسون رؤوسهم في سرابات الرؤى والتصورات وفنتازيا الخاليات , ويحسبون ذلك هو مجدهم وعزتهم وكرامتهم , ويتكئون على أوهام المعرفة بالدين والحياة وما يدور في أروقة الدنيا , ويحسبون أنهم يفقهون اللغة العربية , ولو سألتهم عن معنى مفردة واحد في القرآن لتسمّروا بوجهك وحسبوا ذلك إهانة لهم!!

بربك الأعلى أ ليست هذه مهزلة , وتعبيرات عن عقليات مُسخرة لألف غاية وغاية في نفس يعقوب وآله!!

تصوروا لو أن الدول العربية تعلمت الإستثمار في واردات النفط , وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية والعمرانية والترفيهية والتعليمية والبحثية , وأحسنت نظام بناء المدن وجمالها وعمرانها , هل سيحصل لمجتمعاتها مثلما يحصل لها اليوم؟!

معظم المدن العربية تخلو من الجمال العمراني المعاصر , وتعج بالأوساخ وتتراكم فيها الأزبال وتكثر البرك والمستنقعات , وتبدو المدارس التي يتعلم فيها الأطفال بائسة حزينة وكأنها الخرائب , وحول جوامعها ومساجدها يتنامى الفقر المدقع والحاجات المتفاقمة , وكل المظاهر السلبية فيها تقرن خمسة مرات أو أكثر بذكر رب العباد!!

فالمدن العربية تفتقر لأبسط متطلبات البنى التحتية , من خدمات تصريف مياه وماء صالح للشرب وكهرباء وطرق وشوارع حديثة , ومتنزهات ومستشفيات ومدارس وملاعب رياضية ونوادي ومكتبات وغيرها مما يتوفر في المدن المعاصرة , فماذا نتوقع سيتخرج من هذه المدن المزدحمة بالسلبيات , والتي يغيب فيها لون الشجر؟!!

والعربي تجده يهاجر إلى بلاد الغرب , ويعيش على معوناتها لكنه يتنعم بسعادة وأمان , ويتفاعل مع الحياة بمعاصرة وإيجابية , وتراه ينكر ما يحصل في مجتمعه الذي جاء منه قبل بضعة أشهرٍ أو أعوام.

إن الذي يريد أن يبحث ويحلل ويفكر , عليه أن يكون موضوعيا وأمينا وصادقا , لا مُخادعا ومُضللا ومُسخَرا , فالعيب ليس في المذاهب والطوائف والإختلافات , العيب في النظام السياسي وغياب العدل في توزيع الثروات , ولا بد من قانون وطني يضبط التصرف بعوائد النفط , ومن رؤية تخطيطية لإستثمارها في المشاريع الصالحة للإنسان , أما أن تكون هذه الثروات وسائل للعدوان على العرب وتدميرهم , فذلك هو الداء السرطاني الذي يسري في المجتمع العربي.

فالعرب لن يتقدموا ويكونوا إن لم يتحرروا من أصفاد “مضى وما انقضى” , ويتعلموا أن الإقتصاد أساس الأمن والسلام والديمقراطية والنظام!!