غالباً ما توصف مناطق التطرف والعنف ب”قندهار” وقد إلتصقت هذه الصفة بتلك المدينة عندما سيطر طالبان ومن ثم تحالفهم مع القاعدة الذي إنتج تنفيذاً حرفياً وإسقاطاً جديداً لمأساة التراث الإسلامي. قندهار مدينة طبيعية وربما لو أستمرت بذات النسق التاريخي الذي سارت عليه لوصلت إلى مصاف مدن قريبة منها كالمدن الهندية، سيما إنّ تاريخ هذه المدينة يمتد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، بيد إنها حُوّلت إلى مكب للنفايات التي تنتجها مدارس التراث المرتكز على البخاري والسير المخزية لبعض “أصنام التراث”، المقدسة بالنسبة للأزهر ومدارس المملكة العربية السعودية.
إنّ المصدر الحقيقي والثابت للتطرف والإرهاب الوحشي، هو تلك المدارس الملغّمة بقدسيات وهمية قادرة على تخدير المسلم البسيط وإقناعه بجنّة ثمنها إلغاء حياة أكبر مجموعة من المختلفين بوصفهم (كفار)..!
على هذا الأساس الفكري الشاذ، تحالف منذ ٢٠٠٣ أتباع تلك المدارس وحزب البعث المنحل الفاقد لسلطته الدموية، وإختاروا الفلوجة كعاصمة لفكرهم وممارستهم. وليس إختيار تلك المدينة جاء صدفة؛ إنما لإعتبارات كثيرة منها:
١- كونها مهيأة منذ فترة طويلة -الحملة الإيمانية- لهذه المهمة وقد سميت بمدينة (المساجد). فالنظام البائد، الذي يصف نفسه ب”العلماني” أعاد أحياء الصوت الديني المتطرف، والنزعة العشائرية عندما فقد أمل الإستمرار بعد أحداث ١٩٩١. إذ هيأ أرضية خصبة لممارسة القمع بطريقة أبشع وأكثر وحشية من السابق.
٢- أغلب ضباط الأمن الصدّامي ينتمون لهذه المدينة، وهذا الصنف معروف بوحشيته وممارساته الإجرامية.
٣- الموقع الجغرافي للمدينة، إذ ترتبط بعدة محافظات وتقع على الطريق الدولي الرابط بين بغداد ومنفذ “طريبيل” كما إنها، ولقربها من بغداد وإحتواءها على طبيعة صعبة، قادرة على إزعاج العاصمة وتقويض الإستقرار فيها وفي مدن أخرى.
كان لهذا الإختيار أثراً كبيراً في نجاح إستمرارية مشروع الإرهاب وتعطيل الدولة العراقية، ونتيجة لتفاعل تلك المعطيات صُدّرت الفلوجة كعاصمة فكرية وعسكرية للإرهاب، وتفوّقت على “قندهار” إذ أصبحت مكررة للنفايات ومصدرة لها وقد تأسس جيلاً متوحشاً، فضلاً عن إعتبارها الخزين الإستراتيجي للإرهاب، سواء “قاعدة” أو “داعش”. وقد صارت بذلك (المدينة التي لا تقهر) والمستعدة لإستقبال جميع الجنسيات المشبعة بفكرة (الإسلام دين الذبح) وبالفعل عجزت القوات الأمريكية عن إقتحامها، وكانت محاولات الحكومات العراقية المتعاقبة خجولة ولا ترقى لمستوى الخطر. هذه الأحداث التاريخية أضفت رمزية خاصة يتغنى بها الإرهاب، وأضافت عنصر قوة جديد للمدينة حيث أدخلت في تدويل القضية العراقية، وهكذا بيئات تتميز بالنشاط المخابراتي الدولي، وهذا واضح في الحراك الإعلامي المصاحب لداعش بصورة غير مباشرة، وبالتالي بقيت الفلوجة خنجراً مسموماً في خاصرة بغداد وغصة مؤلمة في حلق العراق بصورة عامة!.. بيد أن عجلة التاريخ لا بدَّ أن تستمر من خلال مساهمة الجماهير في تدويرها، ولن تكون الغلبة لأي مصدر آخر مهما تملّك من وسائل.. العراق ليس شاذاً عن هذه القاعدة الكونية، وما نعيشه اليوم هو عملية “صيرورة” شاملة يخلقها شعب، ستؤثر على مستقبل شعوب آخرى، وربما العالم بأسره.
قد يبدو ذلك شعراً شبيها بالفخر في الإحتفالات الوطنية، ولكنه ليس كذلك؛ إنما هو حقيقة تستقي معطياتها من العالم الصغير المرتبط بذات المشكلة.. الإرهاب.إنّ أتباع رموز الإرهاب التاريخي الذين وضعوا نصوصه (المقدسة) ينتشرون على مساحة العالم، ولعل الحرية المتاحة لهم في الترويج لتلك النصوص في دول العالم المتحضر، ستؤدي في النهاية إلى ممارسة تلك النصوص فعلياً وبشكل واسع، وقد تعرضت أوربا لبعض لتلك الأعمال الإجرامية، ولكنها قادرة على تقويض صعود الفكر الإرهابي الوافد إليها عندما يقرر أهل الأرض المواجهة والتخلي عن نظام توفير حياة طبيعية للوافدين. وبالتالي فالبيئة الفكرية الأصلية للإرهاب هي البديل الجاهز والمريح لممارسة الإجرام، والنصوص جاهزة والقياس التاريخي تمتلئ به المدارس الدينية ورؤوس القوم..! قد يبدو الإستقرار الذي تعيشه المناطق الحاملة للوباء، كالدول الإسلامية الحاضنة لذلك الفكر، إستقراراً إستراتيجياً نتيجة لإمتلاك تلك الدول منظومات أمنية وعسكرية وأنظمة وتكنولوجيا متطورة، فضلاً عن الإنسجام الإجتماعي. غير إنّ هذا لا يكفي لإدامة السلم والأمن، فالأصل بالمؤسسة الأمنية هي رد فعل على دوافع الشر والإجرام المتحكم في نفوس بعض البشر، ويجب أن ترافقها منظومة ثقافية إصلاحية ترتقي بمستوى الفكر الجماعي وتصل به إلى منطقة رفض العنف والشر. بمعنى إنّ المنظومة الأمنية التي غايتها إحلال السلم، تحقق غايتها بالردع والتوجيه، وغياب أي عنصر يؤدي إلى إختلال كبير، فما بالك إذا كان التوجيه والتثقيف يسير بأتجاه عكسي؟!
إنّ تحالف مؤسسة الحكم السعودي مع المؤسسة الدينية الوهابية المتلقية للتراث بأمراضه، أنتج أجيالاً من الشعوب المخدرة بتراث دموي صنعته أجهزة السلطات المتعاقبة. سيما بعد تنازل مصر عن دورها العربي وصعود السعودية بكامل ثآليلها الفكرية وأمراضها التاريخية. وقد أمتد تأثير المملكة إلى شعوب أغلب الدول العربية.
ولعل المؤسسة الأمنية ذاتها مصاب بذلك الداء المرعب، وبالتالي فأن ثمة إنهيار سريع سيصيب أجهزة الأمن في تلك الدول، عند أول ظهور علني للعقائد الإرهابية التي باتت تشكل الشخصية الطبيعية هناك. فالإرهاب مركب عنفي معقد يبحث عن العدو الأقرب الذي يستطيع الوصول إليه، وأي إختلاف جزئي يعتبر بنظرهم إرتداداً وكفراً، وبالتالي هم يجدون بأقرانهم كفار يستحقون القتل، بمعنى إن داعش مستعدة لتكفير الوهابية، فضلاً عن عموم السنة. تجدر الإشارة إلى إن الفرق بين داعش والوهابية عموماً سخيف ومضحك؛ فالأولى تكفر الجميع وتقتل بشكل عبثي، بينما الوهابية، وهي أصل داعش، تعترض على تكفير بعض الفرق السنية وتدعو لقتل من هم غير ذلك، ولكن بطريقة مرتبة تضمن لهم تواجد دائم!..
ربما هذا السبب الذي جعل جميع الوهابية، بضمنها داعش، تتباكى على الفلوجة وتحاول منع دخول القوات العراقية لتطهير المدينة المحكومة رسمياً بمنظومة إرهابية متكاملة. إن التأثير الوهابي لا يتوقف على المؤمنين بفكرهم؛ بل يمتد إلى أغلب المسلمين السنة، نتيجة لإمتلاكهم وسائل التحكم بالوعي. غير أن الأساس البدوي الذي يقوم عليه ذلك الفكر، يقع بتناقضات كبيرة جداً، وغالباً ما يتخلص منها بنصوص ومقاربات تاريخية. هذه المرة لا ينفع القياس ولا النص، فتحرير الفلوجة قلّص مساحات داعش وجعلها تفكر بمهدها الأول كبديل مناسب تنطلق منه، وآلة الخراب هذه باشرت عملياً بالإقتتال مع أرباب فكرها ومناصريها أو المتعاطفين معها تحت يافطة (قتل الروافض) و (الدفاع عن الصحابة).
إنّ ذلك الهدف الذي طالما أفرح علماء المملكة بأستهدافه، وطالما سمعنا خطيب الحرم المكي يدعو عليهم بالفناء ويحرّض على قتلهم؛ هؤلاء وحدهم من إستطاع كسر تنظيم داعش وإنهائه في العراق، وهذا النصر لم يأتِ عن طريق الدعاء والشعارات؛ إنما خبرة كبيرة نتيجة الرغبة الشعبية في المواجهة. لقد وفر إمتلاك أسباب النصر فرصاً جديدة لصعود عراقي مرتقب، وهنا لا بدّ من إدراك حقيقة باتت محسومة؛ نهاية داعش في العراق وإلى الأبد.
لقد دخل العراق هذه المرحلة، لكنّها لن تكون سهلة، إذ ستكون من أبرز إلتزاماتها مساعدة الدول المرشحة لداعش وأمدادها بالخبرات الميدانية التي كسرت مخالب ذلك الوحش، وهي قادرة على الإستهزاء به في الميدان.