23 ديسمبر، 2024 8:55 ص

من يُوبـِقُ المستحيل؟

من يُوبـِقُ المستحيل؟

في أيلول من عام ٢٠١٣ زار أحد المرجعيات الكنسية المشرقية دولة لبنان الشقيقة، وكتب مكتب المرجعية الإعلامي يومها مجموعة من الأخبار غطت فعاليات تلك الزيارة التي كانت الأولى للمرجعية بعيد تسنّمه مهام منصبه فأحيطت بتغطية جيدة وحفلت في الوقت نفسه بالفعاليات والزيارات والاستقبالات، لعل أبرزها كان اللقاء مع فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون.. مهلا.. هل قلت عون؟ لكن العماد عون لم يتبوّأ سدة رئاسة الجمهورية اللبنانية إلا أواخر العام2016 ما دفعني يومها إلى التعليق على هذا الخطأ، بل السقطة في حينه، بالكتابة على صفحتهم (الفيسبوكية) بما مفاده أنها “بشرى خير للعماد عون الذي يسعى وبشقِّ الأنفس ليصير الرئيس وانتم اختصرتم عليه كثيرا وجعلتموه رئيسا بجرة قلم”. إثر ذلك صحح المسؤول الإعلامي الخبر وحذف تعليقي أيضا.

بيت القصيد أنه حصل عام ٢٠١٦ بعد مخاض عسير جدا تخللته فترة شغور للكرسي الرئاسي زادت على العامين، كان العماد عون خلالها بل وقبلها بسنوات وسنوات يسعى جاهدا في سبيل اعتلاء هذا المنصب، لاسيما عقب عودته من منفاه الاختياري بباريس عام ٢٠٠٥ الذي قصده بعيد عقد اتفاق الطائف الذي أنهى حربا أهلية لبنانية دامت سنوات لم تسفر عن شيء، إلى جانب ما خلفته من دماء ومآسٍ، سوى سجن أحد أطرافها الدكتور سمير جعجع، غريم عون في الحرب، ونفي الأخير الذي صارع لإنهاء الاحتلال السوري غير المعلن للبنان.. فكان وصوله إلى سدة الرئاسة بعد كل هذه السنوات مع وجود كل هذه العداوات ومخلفات الحرب فضلا عن الصراعات الإقليمية، ولبنان أحد مسارحها، ضربا من المستحيل دفع أحد رجال السياسة اللبنانيين وهو منسّق الأمانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق فارس سعيد للتصريح لصحيفة (الجمهورية اللبنانية) بخصوص حظوظ عون في الرئاسة الأولى خلال فترة صراع الديكة على الكرسي بالقول: “إذا أنا صِرت بريجيت باردو عون بيعمِل رئيس جمهورية” فقِس على ذلك مدى استحالة الأمر!

لكن دوام الحال يكاد يكون هو وحده المحال، فقد عاد الجنرال ليتحالف مع أعدائه ويشكل مع حزب الله فريقا سياسيا واحدا وليزور سوريا التي حاربها وليتفق لاحقا مع صديقه اللدود جعجع فيغدو جامع النقيضين حينما دعمت كل من السعودية وإيران، اللاعبين الرئيسين في الساحة اللبنانية، ترشحه للرئاسة، مضمون الفوز مسبقا، وهكذا عاد الجنرال المنفي قرابة خمسة عشر عاما ليغدو رئيسا بعد الفراغ رغم تجاوزه الثمانين من عمره! متخطيا كل مستحيلات التوازن والتوافق السياسي المعروفة في لبنان ويحقق حلما طالما راوده مذ كان رئيسا للحكومة الانتقالية ولم يتخلَّ عنه رغم سنوات النفي وبلوغه منَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ، وليفتح صفحة جديدة أمام العام ٢٠١٧ ليكون عام توقع غير المتوقَّع بل ربما عام تحقيق الأحلام المستحيلة. ولا ندري هل استطاع ذلك السياسي اللبناني أن (يصير بريجيت باردو) مادام عون قد غدا رئيسا؟

ليس هذا وحسب، فتحطيم المستحيلات تتالى على أرض الواقع بعدما أشارت معظم، إن لم نقل كل، استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية إلى حتمية فشل المرشح الجمهوري دونالد ترامب (71 عاما) الذي حذرت مجلة (الايكونوميست) البريطانية من أن وصوله إلى البيت الأبيض سيشكل خطراً عالمياً، كما كان مجرد ترشحه للرئاسة مادة للتندر وصلت حد ظهوره في إحدى حلقات المسلسل الكارتوني الأمريكي المعروف (عائلة سيمبسون) قبل ١٦عاما من انتخابه، حيث يشير صنّاع المسلسل إلى أن تسلم ترامب مقاليد الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ضمن أحداث المسلسل، كان في إطار (تحذير اميريكا) لأنهم متفقون مع الرؤية التي تقول إن الأمريكيين متجهون نحو الجنون. فهل حطَّم الجنون قيد المستحيل؟ هل حقا سيُغرق ترامب الولايات المتحدة في أزمة مالية فتغدو بحاجة إلى فرد من عائلة سيمبسون يخرج من الشاشة إلى الحياة ليصلح ما أفسده ترامب؟ الأمر الذي لم يعد بدوره مستبعدا في إطار الواقع الحالي، مع التنويه بأن مسلسل الكارتون ذاك تنبأ، بشكل أو بآخر، بهجمات الحادي عشر من سبتمبر٢٠١١ قبل وقوعها بخمسة أعوام!

يوم اجتاح الغراب الأسود المسمى (داعش) سماء الوطن، وظلل بجناحي ضلاله وإجرامه مساحةً قاربت وربما زادت عن ثلث الأراضي العراقية، وأعمل فيها ظلما وجورا وقتلا وحرقا وسوى ذلك كثير أريق في تدوينه كثير من الحبر وأكثر من الدم، سقط كثيرون في شرك اليأس والإحباط فاقدين كل أمل في صلاح الحال الذي بدا لهم، ومازال يبدو، من المحال، ومن يظن أنهم كانوا غير محقين في ذلك؟ خصوصا بعدما طال الزمن والأرض مسلوبة والخيرات منهوبة والحقوق مفقودة على أكثر من صعيد. لكن شعاعا خافتا من سنا رجاء انبلج وسط دَيْجُور الواقع القاتم مع تتالي أنباء تحرير المُغتصَب من الأرض، أواخر العام 2016، بدءا بقرى وبلدات سهل نينوى وصولا إلى تحرير الجانب الأيسر من مدينة الموصل مع أمل قريب بتحرير الجانب الأيمن منها كاملا، فضلا عن تقدم هنا وتحرير هناك على جبهات موازية، مجرد التفكير في تحقيق ذلك كان عام 2014 لم يكن رجما بالغيب بل ضربا من المستحيل، يوم سقطت محافظات عراقية منها نينوى وسهلها في ثقب أسود ظن البعض أن هاويته لا قرار لها وأن دولة الخلافة باقية وتتمدد، وفقا لشعار مزعوم، لكن الحياة الطبيعية عادت تسري في شرايين الجانب الأيسر من الموصل.. حملة إعمار هنا وأخرى هناك في بلدات سهل نينوى برعاية جمعيات ومنظمات دولية سعيا لإعادة من تبقى داخل الوطن من أهلها المجلوّين قسرا.. كثيرون يرون عودة المسيحيين وأبناء سائر الأطياف الأخرى إلى مواطنهم الأصلية من سابع المستحيلات، بعدما لاقوه من ضروب الاضطهاد وصنوف المظالم وشطط التطرف، في مسيرة حفلت منذ قرون خلت بالمرائر والمكاره والاضطهادات، لم يكن أولها الاضطهاد الأربعيني على يد شابور الثاني الذي سقط خلاله مئات الآلاف من الشهداء المسيحيين، أعطوا كنيسة المشرق اسمها (كنيسة الشهداء)، ومنحوا الأرضَ دماءهم لتكون بذارا للحياة، و توالت قوافلهم مع سيفو وصوريا وسيدة النجاة، ولن يكون ما حصل في 2014 آخرها. ومثلهم الايزديون الذي عانوا لقرون، ومازالوا، من فتاوى تبيح قتلهم وبيعهم في الأسواق وسبي نسائهم تحت ستار من الشرعية المزيفة. وكذا أبناء أطياف أخرى كثيرة، بل إن تاريخ العراق حافل بالمآسي والويلات وتجبّرٍ واستقواء على الحلقات الأضعف حتى لا يكاد تاريخ أي طيف من أطيافه يخلو من فترة مظلمة والكل يشكو مظلماته ويطالب بالعدل والإنصاف.

لكن الحياة مازالت مستمرة والصامدون اليوم في أرضهم هم أبناء الصابرين بالأمس، وعودة الأمور إلى جريانها الطبيعي ليس بمستعصٍ، والارتداد عن اتبّاع غواية الشيطان ليس عُضالا، و الأمل بدولة مدنية تحفظ حقوق الجميع على أساس المواطنة، ليس أضغاث أحلام، والعيش المتنوع المشترك بسلام مع الآخرين ليس بجنون، أليس بعض المتهمين بالجنون قد صاروا زعماء دول عظمى؟!

ليس السؤال كم هو عويص هذا الأمر، أو مستحيل؟ إنما السؤال: من سيمتلك الشجاعة ليوبـِقَ المستحيل؟