في عالم الحيوان هناك الكثير من الأمور العجيبة والغربية ، التي تثير دهشتنا لروعتها أحيانا”أو تستدعي اشمئزازنا لبشاعتها أحيانا”أخرى . ومن جملة تلك الأمور ما يشاع عن سلوك طيور النعامة عندما تدس رأسها في الرمال كلما استشعرت إن خطرا”ما يداهمها ، مستجيبة بذلك لنداء الغريزة الذي يحملها على ممارسة هذا الضرب من التصرف الغريب ، تحت تأثير إيحاء الشفرة الكامنة في طبيعتها ، بحيث (تعتقد) إن عدم رؤية مظاهر الخطر المحدق بها كفيل بإبعاده عنها وتجنيبها عواقبه . والحال انه في عالم المجتمع العراقي الغريب في أطواره والعجيب في خصائصه ، يحدث شي مشابه لهذه الحالة النكوصية إزاء ما يقع فيه وعليه من كوارث ومصائب ، وحيال ما يتربص به ويكمن له من مآزق وحرائق ، كما لو أن برنامج وراثي يقود خطى أبنائه للتصرف على هذا النحو الشاذ والمحير . فالذي يتصفح تاريخ هذا المجتمع الملغز والمطلسم – غالبا”ما نتبجح بفرادة صيرورته الحضارية – سيفاجئ بما لا رأته عين ولا سمعته أذن ، إذ بقدر ما تسوء الأوضاع السياسية وتقسو الظروف الاجتماعية وتتردى الأحوال الإنسانية ، بقدر ما يصابون بحالة من الشلل الإرادي والتعطل الفكري والخبل النفسي ، للحد الذي يفقدون معه كل ممانعة ويتخلون عن كل رفض . فهم على أتم الاستعداد لأن يلوكوا آلامهم دون تذمر ويزدرون مصائبهم دون احتجاج ، بحيث استحالت طبيعتهم إلى ما يشبه المادة الصلصالية بيد فنان ماهر ، حيث تتشكل كيفما يرغب وتتكون حسبما يشتهي . لا بل إنهم سرعان ما ينقلبون إلى كيانات هزيلة لينة العريكة سهلة الانقياد ، لا يترددون في إظهار كل ضروب الطاعة لكل عابر سبيل دانت له القوة حتى ولو أذاقهم طعم الذل ، ولا يتحرجون من إشهار كل أشكال الخنوع لكل طارئ اغتصب السلطة حتى ولو جرعهم كأس المهانة . ومن غراب هذا العالم الغارق بالخرافات من كل شاكلة والملفع بالأساطير من كل طراز ، إنه في الوقت الذي يذرف فيه أبنائه – يستوي في ذلك الجميع ومن دون استثناء إلاّ من رحم ربي – الدمع مدرارا”على خراب وطنهم (العراق) واندثار حضارته ، فهم أول من غدر به وهدر دمه واسترخص مصيره ، مثلما فعل أخوة يوسف في القصص القرآني . وفي الوقت الذي لم يبخلوا في لطم صدورهم وخدش خدودهم على ضياع أمجاد عروس عراقهم ( بغداد ) واندثار هيبتها ، فهم أول من سمح للغزاة والطامعين بانتهاك عفتها وتدنيس شرفها وتمريغ انفها بالتراب . والحال انه بالرغم من أن جميع المعطيات والتوقعات تشير إلى إن العراق (كوطن) مقبل على الاندثار ، وان العراقيين (كمجتمع) مقبلين على مقبلين على الانقراض ، على خلفية تصادم الإرادات السياسية ، تزاحم الأزمات الاقتصادية ، وتراكم الاحتقانات الطائفية ، وتفاقم الصراعات الاجتماعية ، وتعاظم الانهيارات الأخلاقية . فان أحدا”لا يشعر إن الأمر يعنيه أو يمسه لا من قريب ولا من بعيد ، كما لو أنه يعيش في عالم آخر أو انه يشاهد فلم سينمائي ، سرعان ما يضع له المخرج نهاية سعيدة بعد طول عناء . وعلى هذا المنوال فما أن تقع نازلة سياسية أو تحصل محنة اجتماعية أو تحدث انعطافة تاريخية ، حتى يهرع العراقيين – أفراد وجماعات – نحو اثنياتهم وطوائفهم وقبائلهم ، للاصطفاف خلفها والاحتماء بها والاعتماد عليها ، تاركين للآخرين يقررون مصيرهم ويحددون خياراتهم ، كما لو أنهم غرباء عن هذا الوطن الذي أطعمهم من خيراته ، وطارئين على هذا المجتمع الذي أنجبهم من رحمه وأرضعهم من قيمه . والمفارقة انه كلما عظم الخطب واشتدت الوطأة ، كلما وضع العراقيين رؤوسهم بين سيقانهم بانتظار أن تتخطاهم الأزمة وتتجاوزهم عواقبها ، متوخين بذات الوقت أن ينصفهم القدر ويحلّ عليهم الفرج من السماء . وبدلا”من أن يشرعوا بلملموا شعثهم بأيديهم بعد أن ذررته رياح الصراعات الفئوية والمناكفات الشخصية ، وبدلا”من أن يتدبروا أمورهم بأنفسهم بعد أن طال عليهم الأمد وهم ينتظرون منقذ / مخلص ، وبدلا”من يبحثوا عن مخارج لسوء تصرفاتهم بعد أوصلتهم إلى الحضيض وقادتهم إلى التهلكة ، فإذا بهم يتسابقون لشتم بعضهم البعض الآخر ، وتخوين بعضهم للبعض للآخر ، وإيقاع بعضهم بالبعض الآخر . في الوقت الذي يشرف فيه كيانهم الوطني على التفكك والتقسيم إلى دويلات متحاربة ، مثلما يتعرض فيه وجودهم الحضاري إلى التمزق والتذرر لأقوام وطوائف يستأصل بعضها البعض الآخر . لهذا ينبغي أن نكف عن ترديد معزوفة الاحتلال ودوره في تصعيد صراعاتنا ، ونقلع عن إلقاء اللوم على القوى الإقليمية باعتبارها المسبب في تأجيج نيران حرائقنا ، ذلك لأننا نحن لا غيرنا من يجعل استراتيجيات الأول تنجح في تعميق فرقتنا وتأبيد تمزقنا ، كما نحن لا غيرنا من يجعل مخططات الثانية تعطي أكلها في استمرار مصائبنا وتكرار مآسينا . فهل هناك ، بعد كل ذلك ، ما يبرر تساؤلنا الساذج : من يذبح العراق يوميا”ومن يدنس شرف بغداد كل ساعة ؟؟!!