23 نوفمبر، 2024 10:23 ص
Search
Close this search box.

من يكتب قصة ماساتنا ؟ امينة مكتبة البصرة مثالاً

من يكتب قصة ماساتنا ؟ امينة مكتبة البصرة مثالاً

عام واكثر ؛ وانا اعمل في مجال الكتب والطباعة في الولايات المتحدة الامريكية..اكتشفت خلالها اشياءً لم اكن اعرفها ؛ او لم اطلع عليها من قبل في هذا العالم العجيب والغريب معاً ..اعد نفسي بان اعود للكتابة فيها في اقرب فرصة ممكنة  ..
وخلال هذه المدة لم يصادفني اي كتاب مطبوع باللغة العربية الا في ثلاث مناسبات فقط ساتحدث عنها لاحقاً ..ولكنني التقطت ما لايزيد عن عشرة كتب لمؤلفين وكتاب عرب مترجمة الى الانكليزية مطبوعة في ارقى دور النشر الامريكية ..والكتب كانت ترجمات  لالف ليلة وليلة وملحمة كلكامش ورحلات ابن بطوطة الى افريقيا ..ومخطوطات لكل من ابن رشد والوراق وجبران خليل جبران وترجمة لمعاني القران الكريم ..اضافة الى طبعة انيقة وراقية لرباعيات الخيام باللغات العربية والفارسية والانكليزية ..
الا ان الذي اثار انتباهي ..وشجوني ايضا !! هو حين وقع بيدي كتاب مطبوع باناقة وجمال متناهيين وبالقطع الكبير مخصص للاطفال ..علمت فيما بعد انه كتاب مدرسي متوافر في جميع مكتبات مدارس الولايات ومكتبة الكونغرس الامريكي والكتاب   (the librarian of Basra) عنوانه : امينة مكتبة البصرة لمؤلفته الكاتبة والرسامة جانيت وونتر ..والكتاب منتج في عام 2004 ومطبوع في سنغافورة لحساب دار نشر هار كورت الشهيرة بفروعها في كل من امريكا وبريطانيا وكندا ..وهو ماخوذ عن قصة حقيقية ومقابلة صحفية اجرتها في تموز يوليو عام الفين وثلاثة صحيفة نيويورك تايمس مع السيدة علية محمد باقر امينة المكتبة المركزية العامة في محافظة البصرة ؛ روت فيها قصة محافظتِها ؛ بطريقة فريدة على كتب المكتبة المركزية الثمينة والنفيسة والنادرة – اثناء الحرب الامريكية الاخيرة على العراق في اذار نيسان من العام الفين وثلاثة ..
الكاتبة زيّنت اولى الصفحات بكلمة قالت فيها : ان الله امر الرسول محمد ( ص ) في اول سورة في قرآن المسلمين بان يقرأ.. دليلاً على ان القراءة عند الله أهم من اي شئ اخر !! ثم تسرد الكاتبة قصة طبع وانتاج الكتاب ..وتؤكد ان جمعية المكتبات الامريكية العامة خصصت جزءاً من ريع الكتاب للتبرع لبناء مبنى جديد للمكتبة المركزية العامة في مدينة البصرة العراقية العريقة..والتي دمرت اثناء الحرب الاخيرة على العراق..وتروي صفحات الكتاب التي زينت بالرسوم الملونة المخصصة والموجهة للاطفال والفتيان باسلوب قصصي مبسط قصة علية ……الموظفة والانسانة والمسؤولة ..وحبها لكتبها وعملها .. والتي رأت بخبرتها وبصيرتها ؛ واستنادا الى تجارب وحروب واحداث سابقة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي ان الحرب واقعة لا محالة ..لذلك قررت ان تقوم بما يمليه عليها ضميرها الوطني والوظيفي والامانة والمسؤولية بانقاذ الكتب التي تحتويها المكتبة قبل ان تحرقها نيران الحرب او الجهل ..فقررت اولاً ان تطرق باب الوسائل الرسمية علّ وعسى ان تـُفلح في مرامها ..ولكنها واجهت رفضاً وصدوداً من قبل محافظ المدينة الذي ردّ طلبها ..بل زاد بأن قرر ( قبل الحرب بأيام ) بان ينقل دوائر المحافظة الى مبنى المكتبة المركزية لأن المعلومات المتوافرة اكدت ان مبنى المحافظة الاصلي سيكون هدفاً لقصف وصواريخ وطائرات القوات الاجنبية..وعندها اتخذت علية قراراً خاصاً غاية في الصعوبة ..بأن تنقل ما تتمكن من كتب المكتبة الى دارها ؛ وبسيارتها الخاصة مهما كلف الامر..وفعلاً بدأت بتنفيذ قرارها سراً وتحت جنح الظلام ونذر الحرب تتزايد وطبولها تـُقرع بصوتٍ عال .. حتى تمكنت من نقل حوالي السبعين من المئة من الكتب التي ملأت اركان منزلها بالكامل : غرف النوم والاستقبال والمطبخ والحديقة والشبابيك وكل الزوايا ..وحين لم يعد البيت يستوعب المزيد فاتحت جارها ( انيس ) بان يفتح لها مطعمه المقفل لأيداع المزيد من الكتب فيه حتى تنجلي الامور..وبمساعدة عائلتها وجارها وبعض الجيران الاخرين استطاعت علية ان تنقذ جزءاً كبيراً من هذه الكتب من الدمار او الحرق او الضياع اوالتلف ..في نفس الوقت الذي اصبحت فيه المكتبة ثكنة عسكرية وضاقت بالاسلحة والمعدات العسكرية ..وصحّت توقعات علية اذ قست القوات الغازية على المبنى قصفاً وحرقاً وتدميراً..ودمرته بالكامل ( استناداً الى القصة )..ولكنها كانت سعيدة وفخورة جداً بانها انقذت هذه الكتب وما تمثله من ارث ثقافي ومعرفي كبير..في نفس الوقت الذي كانت به حزينة جداً لتدمير المبنى الذي ارتبط بتاريخ وذاكرة المدينة ورواده..اضافة الى انها كانت تعتبر المبنى بيتها وملاذها الاول ..والكتب كأولادها او اشيائها الخاصة .
واتذكر انني قرات القصة سابقا ولكن ( وللاسف الشديد )  بروايات واسماء اخرى على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ..كما المح لي اكثر من صديق ان قنوات فضائية عراقية واجنبية روت اجزاء من تفاصيل واحداث القصة بعد انتهاء العمليات الحربية ..وتذكرت ايضا انه سألني ذات يوم  احد الاطفال الامريكان ببراءة : هل تعرف علية محمد باقر ؟ ولم يكن لدي جواب في حينها ..ولكنني عندما قرات القصة واطلعت على الكتاب تذكرت سؤاله بعد ان علمت ان الكتاب – كما قلت سابقا – متوافر في مكتبات المدارس الامريكية..
ان قصة علية محمد باقر واحدة من عشرات الالاف من القصص والمآسي التي مرت بنا منذ ثلاثة وثلاثين عاماً وما زالت فصولها تتوالى حتى اللحظة ..والذي يحز بالنفس ويؤلمها ان احداً منا لم يكتب قصصنا الماساوية حتى الان الا محاولات متناثرة بإحجام غير مبرر ؛ في حين ان الاخرين هم الذين يبادرون الى كتابة وتوثيق ما لحق بنا من تدمير وسحق ممنهجين بهدف مسخ الشخصية العراقية وتاريخها ونماذجها وادواتها الابداعية ..وهنا نتساءل : اين هو دور المؤسسات الثقافية الرسمية والشعبية والاتحادات والمنظمات المتخصصة مما جرى ؟ واين هو دور الاعلام العراقي من قنوات وصحف ومجلات ..ومواقع اليكترونية تجاوز عددها الالاف ؟ الا يعنيها ان نؤرخ ما جرى ويجري بطرق ابداعية متطورة وخلاقة : كالقصة والرواية والسينما والمسرح والاوبرا والاوبريت والموسيقى وحتى الملاحم ؛ غير مسيسة ولا منحازة ولا متحزبة او متطرفة هدفها ان نطلع الجيل الحالي والاجيال اللاحقة على هول ما جرى لنا من ظلم وتدمير وحروب ومؤامرات وحصارات وماسٍ وتهجير وتشريد واقصاء وظلام وسوء .. ولنستلهم منه العبر والدروس ..ونفتح نوافذ الامل المشرع بالحياة السعيدة والمستقبل الوضاء ؟.
واخير: لماذا يكتب الاخرون قصص مآسينا ..ونحن نتلقى ونستورد ونقرأ ونتفرج ونعجب ..واحيانا نتحسر فقط ؟.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات