بعد حوالي عقدين من الزمن على تغيير نظام الحكم في العراق مازال المواطن العراقي يبحث عن المخلص . اي القائد الذي سينقذه من الواقع المرير .
وفكرة البحث عن القائد المخلص لاينفرد فيها الشعب العراقي وحده ، بل ان اغلب الشعوب العربية والاسلامية تبحث بطريقة او باخرى عن المنقذ . وهم بذلك يبحثون عن شخص القائد اكثر من البحث عن نظام حكم ديموقراطي رشيد يضمن العدالة ودولة المؤسسات .
وهكذا مازالت تجول في عقولنا فكرة القائد الجماهيري الذي سينقذ الشعب والوطن من محنته .
ومن هذا المنطق ، وفي كل مرة نؤسس لمرحلة الديكتاتور المخلص الذي سيحرر الناس ويرفع الظلم عنهم . وكلما تخلصنا من ديكتاتور نصنع دكتاتورا جديدا دون ان نتعض بتجاربنا او تجارب الشعوب الاخرى . وها نحن اليوم نصع طغاة صغار لنضفي عليهم القدسية وصفات لايمتلكونها . .
وما ان يغمرنا الاحترام والإعجاب لشخص حتى يصبح من المقدسات التي لايجوز المساس بها ، فيتحول الى صنم جديد وخطوط حمراء لايمكن تجاوزها .
ان لدينا كل شيء لنصبح أمة ناهضة ، فنحن من الامم الغنية والقوية ولدينا المستقبل والتاريخ المجيد ، ونحن قادرون على تنمية بلداننا لتصبح في مصاف الدول المتقدمة لو تخلينا عن العصبية القبلية والولاء للاشخاص بدل الاوطان ، فالاشخاص زائلون والوطن باقي ذخرا وحصينا لكل الاجيال .
ورب سائل يسأل كيف يكتسب الديكتاتور مثل هذه السلطة ؟
هنا تأتي المقاربات والتشبيهات . فكثير من الاشخاص يعتقدون ان سلطة القائد في النظام السياسي اوالحزبي شبيهة بدور الأب في البيت ، فالأب لديه السلطة ليقوم بدوره في تسيير شؤون العائلة .
ويتم تشبيه القائد السياسي بالأب الحنون القادر وحده على حماية الشعب وتسيير شؤون المواطنين
وبذلك يصبح الشعب كالاطفال في الاسرة ، ينتظرون القائد الاب ليتخذ القرارات اللازمة لتسيير حياتهم . إنهم بحاجة إلى دكتاتور محترم ليقرر بالضبط كيف ومتى يجب عليهم العمل او التصرف في البيت والشارع والمجتمع .
هذه النظرة الابوية متجذرة في عقول كثير من الناس وهي تنسحب الى السياسة ورجال الدين ، وهذا هو جوهر الديكتاتورية .
فوجود الأب يعطي إحساسا للأبناء بوجود المصلح لأخطائهم والراعي لشئونهم بما يرونه في قوة الشخصية والاحترام ، وهذا ينعكس على سلوكنا في المجتمع والسياسة لنجعل القائد او المنقذ كالاب البطل الذي ينجز جميع المهمات ويحقق لنا الامان والعيش الكريم .
ومن هذا المنطلق ايضا ينظر الى رئيس العشيرة او القبيلة .
إن الإحساس بالوجود الحقيقي للقائد الأب كعنصر أمان هو الذي يدفع لصناعة الديكتاتور في كثير من الدول .
ولذلك نجد بعض الشعوب تميل إلى الحكم الاستبدادي ، فترفع شخص ما لتسنم مقاليد السلطة على حساب كثير من المؤهلين ، ثم يتم تدجين الافراد ليصبحوا مطيعين ومنضبطين من خلال الحرس الخاص او الميليشيات المسلحة ، بدعوى حماية الوطن والذود عن المواطنين ، فتتولى ميليشياته مهمة ضرب وترهيب كل من يمسه بقول او فعل ، لادخال الرهبة والخوف في نفوس اعدائه للحفاظ على سلطته وقدسيته .
وهذا يعد بحق من أهم وأخطر ما يواجه مجتمعاتنا ونظمنا العربية والاسلامية ، حيث ان السلوكيات والثقافات المتوارثة عبر أجيال والمستمدة من الافكار الدينية الخاطئة والعقلية القبلية المتخلفة تنسحبت الى الافكار والعقائد السياسية حتى وصلت الى الاحزاب الدينية والطائفية التي اخلت بموازين المجتمع المدني ، والتي ادت في النهاية الى الفكر المتعصب والتطرف الذي لايقبل الآخر ، فاطاحت بمفهوم دولة المواطنة والمؤسسات .
وهكذا ينخفض مستوى الفكر الديمقراطي في السياسة والمجتمع ، ويزداد الميل إلى خلق القائد المصلح والمقدس .
في مثل بلداننا يتم تأسيس الديكتاتورية من شخصية نرجسية مع القليل من المواصفات ، لتبنى عليه بعد ذلك صفات اسطورية لايمتلكها لتحسين صورته ليصبح المخلص والمنقذ الاوحد .
وهكذا يولد القائد العظيم .
وعلى عكس المنطق السليم
فالقائد عندنا لا يعمل من أجل الشعب . بل الناس يتفانون في خدمة القائد العظيم !
لقد هتف مئات الملايين من الناس لحكامهم الديكتاتوريين ، حيث يقتادوهم على الطريق للهتاف والتصفيق لاضفاء الهيبة والعظمة على الرئيس او رئيس الحزب وموكبه المبالغ في حمايته .
لكي نصنع دكتاتورا يجب ان نغرس حب الزعيم العبقري في اذهان الطلاب في المدارس والناس في الشوارع والمسارح والقصص الشعبية والموروثات والاعلام وفي كل المرافق العامة والخاصة ، حتى يصبح تقليدا شعبيا تتناقله الاجيال .
وهذا النهج مستمد من السلوكيات الخاطئة ، والعقليات القبلية المتخلفة . ثم ينسحب الى العقائد والممارسات السياسية .
باختصار نحن من يصنع الطغاة والديكتاتورية ، لاننا نخضع على الدوام لمنطق القوة والتسلط ونمكن الجلاد ليسود علينا ويمارس ابشع انواع الظلم والجور بحق الوطن والمواطن ، ونكون بذلك اداة الجلاد وضحيته بنفس الوقت .
ومازلنا نهتف لهم بالاهازيج والمهوال والاغاني والاناشيد والندوات والفضائيات ومسح الاكتاف . ننتقدهم في السر وفي مجالسنا الخاصة . ونهابهم ونقدسهم امام الملأ وفي المهرجانات والصحف المأجورة . هذا هو واقعنا على الدوام .
وكلما انزاح جلاد خلقنا جلادا آخر .