23 ديسمبر، 2024 11:35 ص

من  يشتري وطن …….!؟

من  يشتري وطن …….!؟

يراجع ذكرياته كل يوم ، يتجول في الشوارع والأحياء التي استبدلت اسماءها مع واسم التغيير ، يلاحق آثار ماكان قائما ً قبل ثلاثين سنة ، المقاهي والمطاعم ومواقف السيارات والمكتبات ، دور السينما والجوامع ، ويعاود وسط الذكريات مسيره اليومي من الباب الشرقي حتى كهرمانة وبقايا “الف ليلة وليلة ” ..!

يطمئن لوجود مكتبة “بناي ” وكذلك ” مكتبة حسن ” مطعم الشمال وساحة النصر وتمثال السعدون ، ودجلة لم يزل يتكاثف الشجر على سفحيه ، أذن هي بغداد لم تزل تقاوم وتحضن الحالمين بخوف ووجل .

لم يؤمن بإستبدال الأوطان ، ومازال يتمسك بحكمة الشاعر ” قبر في أرض الوطن أجمل من كل فنادق العالم “* وحين مزق اوراق اللجوء الى امريكا لم يشعر بندم ،بل غمره ارتياح من يرجع للحياة ، فعجل بترك ربايا “عمان ” وعاد لبغداد يتأبط أحلامه و صور وافكار وأمنيات ، لم تزل تشكل مركز الثقل بوجدانه .

يعترف انه مكث في سجون الوطن طويلا ، أقام في محطات التشرد والحرمان وملاحقة رجال الأمن ومخابرات نظام صدام ، ولم ينس مكوثه مرة واحدة خمسة شهور متواصلة في عتمة زنزانة في سجون الإستخبارات في الكاظمية ، ليس له صلة إلا بصوت المآذن الواصل للزنزانة بخفوت اقرب للصمت والإيحاء اللحني ” الله اكبر ..الله أكبر ..يتردد ثلاث مرات في أوقات منتظمة ، ويعلم الأوقات بحسب وصول صوت المؤذن …، لم يحصل من هذا الوطن سوى الخوف والقلق وبعض أجداث الأحبة .

كانت الأحلام تضج برأسه لدرجة الإنفجار يشغله المسرح والفكر والأدب والسهر والموسيقى والتجوال في شوارع بغداد والتظاهر اليومي على شواطئ دجلتها واحتفاؤه بالمواسم حين ينضج النارنج او يتساقط ” النبق ” يفترش الشوارع أثر عواصف ورياح نيسان ثم يتوالى بياض ” التكي ” أو تنتشر بقع السواد ..كم عشق تلك الحالات في الوزيرية وأزقة الكرادة وشارع ابو نؤاس …تشعر ان بغداد اشبه بمطعم مفتوح بكرم مطلق من تمرها الذهبي العالق على نخل ينتظر الآكلون مرورا ً، الى رغيف الخبز والطعام الذي تقدمه المساجد للداخلين ، الى باراتها التي تبيع الخمرة بالآجل … لهذا اصبحت مأوى للمشردين والنازحين من المدن التي تختنق بالشعراء والمتمردين على الطبيعة ، بغداد فيها اكثر من طبيعة ، تتلّون من اصوات المنشدين قرب الأمام الأعظم بالأعظمية وصولا الى ترانيم رياض احمد في آخريات الليل …وماتت بمحراب عينيك إبتهالاتي …..، مدينة تعتاش على الذكريات وبقايا الصامدين ممن لايبتاعون وطنا ً غنما يشعرون بأنهم سيتحولون الى بعض من ملامح وتراث هذه المدينة الصاعدة الى مراتب التقديس .
الغرباء الداخلون لها يقتلون بعضا ً من وجدها ….، الفاسدون وابناء القرى وقمامات المدن يشوهون عذرية جمالها وفتنتها ، المحتلون يريدون سحق كبريائها وطيبتها ، لكن بغداد هي بغداد تضحك على الجميع … لأنها تملك سر القوة .

من يشتري وطن بديل يبيع نفسه ، ومن يبيع الوطن فهو لقيط …،يقول المسيح “ما نفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه ” ، وهو لم يزل يعشق بغداد ويحن لها وهو يقيم بين ثنايا روحها .