تشهد كل من بغداد وعمان هذه الأيام حراكاً سياسياً عراقياً مكثفاً لبلورة خارطة للكتل والكيانات والائتلافات التي ستدخل معركة الانتخابات المقبلة في العشرين من أبريل 2014.
وهذا النشاط يتوزع على ضفتي الطائفتين العربيتين السنية والشيعية. في ضوء مسيرة العملية الانتخابية لدورتي 2005 و2010 والتي أفرزت- للأسف الشديد- استقطابين طائفيين سني وشيعي إلى جانب الأكراد، رغم ما كان يؤمل للقائمة العراقية من أن تحدثه من تحول باتجاه المشروع الوطني العابر للطائفية، إلا أن ظروفاً بنيوية ولوجستية داخلية وخارجية عدة عرقلت نمو هذا المشروع وأغلقت الطريق أمامه، وحوّلت إئتلافه وكياناته إلى جزر متشظية من الصعب إعادة بناء لحمتها في ضوء تطورات ظروف وتشابكات كثيرة تتعلق بالمنظومات التنظيمية والزعامات النامية التي انحرفت عن مسيرة الولاء للشعارات التي رفعتها وانحسارها في المصالح الذاتية الضيقة.
كما أن طيف المكون الشيعي قد شهد هيمنة كيانات ذات طابع إسلامي شيعي (حزب الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري) إلى جانب شخصيات موالية لهذه الكيانات رغم دعواتها الليبرالية خصوصاً بين أوساط النخب الثقافية. ومن الطبيعي وبعد عشر سنوات من التجربة السياسية العراقية التي كانت برعاية الاحتلال الأميركي لحد عام الرحيل 2011 وانحسار كتلة «التحالف الوطني» إلى هيمنة حزب «الدعوة» مما خلف ردود فعل مشروعة لدى الكتلتين الكبيرتين (المجلس والتيار الصدري) اللتين صنعتا زعامة المالكي لحزب الدعوة والحكومة، بعد تنحية إبراهيم الجعفري ومنحه موقعاً تشريفياً لا يقل عن أهمية جلال الطالباني عند الأكراد. وبعد ما أفرزته انتخابات مجالس المحافظات من مؤشرات ذات دلالات المكانة والموقع لدى جماهير «الشيعة» الذين يتوزعون بين الولاءات التقليدية الدينية والشعور الكامن للولاء الوطني العام، خصوصاً بعد فشل مشروع الإسلام السياسي في المنطقة والعراق، رغم تمترس هذا المشروع خلف الهيمنة السلطوية في بغداد، واستخدامها كأدوات لصالح حزب الدعوة.
إن النجاحات الميدانية لشعارات ما قبل الانتخابات كانت تدور حول اللعب على «شعار المشروع الوطني العراقي» حتى من قبل زعامة المالكي لقائمة «دولة القانون» مقابل «القائمة العراقية» التي قيل عنها بأنها قائمة «السنة العرب» في ترويج مفبرك مقصود لتلبية متطلبات (المثلث الطائفي).
وإذا كان الحراك لدى كتل «الإسلام السياسي الشيعي» أخف تعقيداً لوضوحها داخل دائرة تأثير «المرجعيات الحوزوية» رغم الانحسار الواضح بعد الصحوة الشعبية نتيجة الفساد الهائل والمفرط لدى القيادات التي هيمنت على السلطات الحكومية والبرلمانية التي تغطي بطرق مختلفة المنظومات الحكومية الفاسدة، فإن الإسلام السياسي السني قد كشف عن فشله الذريع لأسباب عدة في مقدمتها عمل قادة الحزب الإسلامي ومواليه في الشغل حسب تعبيراتهم الإيديولوجية على الإنسان وليس الإنجاز، أي إنهم يهدفون إلى عمل إيديولوجي طويل الأمد له صلات بالفكر الإخواني العربي والعالمي، رغم الخيبة والانكسار الذي تحقق بعد هبة الربيع العربي في مصر والمغرب العربي، ولعل هيمنتهم الحالية على «قائمة متحدون» لن توفر لهم فرص النجاح في مشروع بناء الدولة العراقية المدنية الذي يمتلك الفرصة التاريخية في بناء العراق الجديد.
من هنا فما يلاحظ من نشاط لزعامات سابقة في القائمة العراقية بتحرك جديد من كفاءات مبتكرة على مستوى العلاقات والإعلام لإعادة الصياغات السياسية على مائدة أكثر قبولاً على مستوى التسويق السياسي والإعلامي بسبب جهالة بعض السياسيين المبتدئين، وغياب المحترفين على ذات مادة المطبخ التقليدي الذي فشل هو الآخر في تقديم وجبات تغذي جوع الجمهور، ولن توفر تلك الصياغات والفبركات الإعلامية من قدرات جديدة لاحتمالات النجاح في الجولة المقبلة، بسبب الفشل الكبير لتلك القيادات السنية أمام الجمهور.
هناك حقيقة جوهرية هي أن حالة الإحباط الشعبي في مواجهة المسرح السياسي لخلاصة السنوات الثماني الماضية من قبل مشاركين في العملية السياسية يدعون عدم قدرتهم على التغيير خلال المرحلة السابقة، لكنهم آثروا المال والمنافع الشخصية على حساب الشعب، ويحاولون اليوم على «ضفة العرب السنة» تقديم مشاريع انتخابية جديدة لكنها ذات طابع «طائفي سياسي» لن يحل أزمتها الماكياج الإعلامي رغم مهارة الماكيير.
وعلى كلا الضفتين «الشيعية والسنية» هناك دور وتأثير استراتيجي وسياسي وإيديولوجي للقوى الإقليمية والدولية في تحديد اتجاهات هذا الحراك السياسي، سواء في تلبية رغبات المصالح واتجاهاتها، وقد يكون «الدعم المادي» واحداً من تلك المؤثرات في ساحة الشوط الانتخابي، إضافة إلى حسابات المصالح في ضوء التطورات والتغييرات التي أحدثها إعلان التفاهم الأميركي- الإيراني الذي يمتد لعقود. مما سيضع قوى الحراك الطائفية تحت مرمى تلك السياسات، والقوى الوحيدة التي ستتخلص من تلك المؤثرات هي القوى الوطنية العراقية المستقلة.
هناك فشل عام لمشروع «الطوائفية السياسية» تتحمله جميع القوى السياسية التي شاركت وتولت مسؤولياتها البرلمانية والحكومية منذ عام 2005 حتى اليوم. وهذا الفشل يتوزع على الجميع من دون استثناء. والفرصة الوحيدة لاحتمالات التحول وبناء الاستقطاب الجماهيري الواسع، هي قدرة أصحاب المشروع الوطني العراقي العابر للطائفية على دخول اللعبة الانتخابية بقدرات متميزة على مستوى القيادات السياسية الجديدة التي لم تتلطخ أياديها بالفساد أو الإثراء على حساب المواطن، إلى جانب بعض القيادات التقليدية ذات السمعة الوطنية العالية البعيدة عن التخندق الطائفي.
ولعل الجمهور العراقي المحبط يتساءل ومن حقه ذلك: ما هي الضمانات التي تجيب على تساؤلات عدة من بينها؛ هل سيحافظ أصحاب المشروع الوطني العابر للطائفية على مبدئيتهم في تلبية متطلبات هذا المشروع برفض التخندق الطائفي ومواجهة محاولات الإغراء على طريق الانضمام إلى الائتلافات الطائفية قبل أو بعد الانتخابات؟وهل سيستفاد من تجربة القائمة العراقية على المستوى البنيوي وتجاوز أزمة الزعامات الفردية، وانتقاء الشخصيات التي تشكل جسم هذا المشروع الجديد لتحافظ على ولائها للجمهور العراقي؟
إن عملية الفحص والتدقيق ضرورية جداً هذه الأيام خصوصاً إذا ما توفق قادة هذا المشروع وتمكنوا من إحداث اختراق في جدار الطائفية السياسية، وليس الهدف هو الانتخابات المقبلة وجني المكاسب.إن المشروع الوطني هو مشروع العراقيين جميعاً سنة وشيعة وأكراد وتركمان وغيرهم من الأقليات.
وهذا المشروع العابر للطائفية لا بد أن يرتبط بأسمائه ورموزه في النزاهة والكفاءة والمهارة السياسية، مشروع يكون للنخب الثقافية والسياسية الوطنية مكانتها الريادية فيه، بدعم وطني عراقي من جميع الخيرين، والقادرين على تحمل أعباء لعبة المال السياسي بنيّة وطنية شريفة هدفها أن يستعيد العراقيون مكانتهم اللائقة بين شعوب المنطقة.هذا المشروع ورموزه فيما إذا توفرت له الإمكانيات السياسية واللوجيستية القادرة على إدارة شوط المنافسة يمكن أن يحرر المشروع الوطني العراقي من أسره.