إن أية جريمة اغتيال حدثت أو تحدث في أية مدينة عراقية، أيا كانت دوافعُها وظروفها،تعني أن الوطن قد تخلى عن سلامة أبنائه وأمنهم وكراماتهم وأرزاقهم، وأنه لم يعد صالحا لعيش أحد من بني آدم، وصار على كل عراقي لديه بقية شرف وأمانة وشجاعة ولا يستطيع أن ينحني أمام حرامي، ولا أن يُقبل الأرض بين يدي جلاد، أن يحمل عصاه ويرحل، فقد أصبحت الرصاصة هي رئيسة الجمهورية ورئيسة الوزراء ووزيرة الداخلية وقائدة الشرطة والجيش في عراقهم الديمقراطي الجديد.
والهبّة الغاضبة التي اجتاحت العراق على اغتيال الكاتب المعارض لديمقراطية الخنجر والساطور، علاء مشذوب، وهو إبن كربلاء ومن طائفة القاتل المجهول، تستحق الاحترام والتقدير والامتنان. ولكن.
في كل جريمة اغتيال حدثت من قبل، وهي لا تعد ولا تحصى، وضحاياها بعشرات الألوف منذ 2003 وحتى يوم أمس، كان العراقيون، من كل دين وطائفة وقومية ومدينة، يهبون باكين شاكين مهددين ومقسمين على أن هذه الجريمة لن تمر دون حساب. وفي أكثرها كانوا يخرجون زرافاتٍ ووحدانا متظاهرين غاضبين منشدين، في شجبها، الأناشيد والقصائد الشعرية الباكية التي يبكي لبكائها الحجر.
حتى ليظنَّ المتفائلون أصحابُ النوايا الحسنة أن الشعب قد كسر الزجاجة، وأنه قد خرج من عنقها بعد أن عيل صبرُه على الحكومة التي تعرف الجناة ولا تقدر عليهم، وأن غضبته هذه لن تهدأ حتى يحقَّ الحق ويزهَق الاطل، إن الباطل كان زهوقا.
ثم فجأة، وخلافا لجميع التوقعات والطنون تهدأ المشاعر، وتبرد العواطف، وتتفرق الجموع، وتمر الجريمة، مثلما مرت التي قبلها، والتي قبل قبلها، وتقيد ضد مجهول.
والذي يؤلم أن أية جريمة من تلك الجرائم، لهولها وحجمها وأضرارها، لو حدثت في بلد آخر لأشعلت ثورة لا تهدأ ولا تستكين حتى تُسقط الجاني، وتعلقه على أعمدة النور، أو ترمي به في حاوية قمامة.
ونسأل، ماذا ينتظر العراقيون لينتفضوا، أليس كافيا أنْ أصبحت دولتهم غابة يحكمها المسدس، وتدير شؤونها العصابة؟.
فالإرهابي واحد، مهما كان لونه وجنسه وشعاراته، سواء كان بقبعة أو بربطة عنق أو بعمامة. لا فرق بين سني وشيعي حين يحمل مسدسا لاغتيال أحد، خارج الدولة وخارج القانون. ولا فرق بين شيعي وسني حين يَسقط ضحية رصاصة غادرة تخرج عليه من تحت أرض أو تسقط عليه من سماء.
ولا شك أبدا في أنكم تعرفون أول من اخترع فكرة الجهاد بالرصاصة الغادرة، واعتمد عليها لتحقيق أهدافه السياسية، لإسكات من يعارض نفوذه، وأو يرفض احتلاله، ولو بالكلمات.
ألم يكن أول ظهور علني لميليشيا مسلحة في العراق كان لفيلق بدر وحزب الدعوة والتيار الصدري، أوائل العام 2003؟.
ألم يصبح، من يومها، الانتقام والإقصاء والاعتقال والاغتيال جهادا مشروعا ودفاعا عن الله ورسوله وآله أجمعين؟.
ثم من الذي أنجب تلك المليشيات والعصابات، سواء منها المعلومة أو المجهولة، وسلحها ودربها ومولها وأطلقها على عباد الله الآمنين؟
ومن الذي بارك احتلال الشوارع والحدائق والمباني والشواطيء والمصارف والمؤسسات؟،ومن الذي شرّع الاختلاس، وواخترع سياسة بيع وشراء مناصب الرؤساء والوزراء والنوابوالسفراء والفراشين؟
ترى هل ستُضاف جريمة اغتيال علاء مشذوب إلى سجل الجرائم السابقة المرميّة وثائقُها في سلال المهملات، أم تكون الشرارة التي تحرق السهل كله على الجناة، وعلى حُماتهم، وحتى النصر المبين؟
ألم تقرأوا كيف نعت وزارة ثقافة عصائبِ الحق شهيدَ الثقافة؟ إنها حزينة لـ (وفاته).
أيها المثقفون العراقيون لا تمسحوا دموعكم على الراحل الفقيد إلا بعد أن يُمسك الجانيويُقطَّع من خلاف. وإلا فلا كرامة ولا سلامة لأحد منكم بعد يومكم هذا. فهل تَصدُقون؟.