يحكى ان رجلا من أهل العراق كان عائدا من عمله كغيره من العراقيين في ظهيرة يوم لاهب لاتميز حرارتها بين “سني” ولا “شيعي” كما لاتميز أشعة شمسها اللاهبة بين “عربي” ولا “كردي” الا مارحم ربي.. فمن الاستحالة التعرف على انتمائه لاهو ولاغيره من أي طائفة أو ملة أو قومية وهم محشورين بسياراتهم في زحام لم يكن غريبا على ابناء العاصمة بغداد.. فالجميع كانوا “يعرقون” بنفس العرق.. والجميع كانوا تحت أشعة شمس واحدة.. والجميع كانوا متساوون في حصصهم من قيظ الظهيرة وزحام الطريق.. لم يكن هذا الشخص “محور حكايتنا” مستعجلا في العودة الى منزله كغيره من العراقيين، فعلام العجلة والحر هو نفسه ماينتظره في بيته بسبب انقطاع التيار الكهربائي وقد تعود عليه كما تعود ان الشكوى لغير الله مذلة.. والطريف ان جميع هؤلاء المحشورين في هذا الزحام كانوا يتميزون بميزة أخرى تجمعهم وهي التفكير بصمت والصبر على الانتظار.. كانت شبابيك سيارته مفتوحة متأملا نفحة من الهواء تخفف عنه وطأة الحر حين لمس أحدهم كتفه برفق.. رفع بصره فأذا بعدد من الشباب يبتسمون بوجهه وأحدهم يخاطبه قائلا: لقد تم اختطاف اعضاء مجلس نوابنا الكرام وطلب الخاطفون فدية مالية ضخمة ان لم تدفع لهم سيحرقونهم بالبنزين واحدا تلو الآخر.. ونحن “أي الشباب” نقوم بحملة لجمع التبرعات فأذا كنت تحب ان تشارك؟؟..
ابتسم “صاحبنا” وهو يدير ببصره نحو مجموعة اخرى من الشباب يتوزعون بين السيارات المتوقفة في هذا الزحام وبعد حسرة طويلة سأل الشاب أمامه: وفي المتوسط كم يتبرع الناس لهذا الغرض؟؟ فأجابه الشاب بهدوء: من 5 الى 10 لترات من البزين!!…
بالطبع لم تكن هذه الحكاية حقيقية.. انما هي من نسج الخيال العراقي الفريد بتمرسه على الصبر ومقابلته الحيف بابتسامة وفكاهة تزيح عنه الهم والغم اللذان يبدوان انهما قدر كل العراقيين..
ولو كان الامر حقيقة فلاعتب ولا اثم على العراقيين ان قاموا بالاشتراك في “حرق” هؤلاء السياسيين ولكن “لله الحكم من قبل ومن بعد”..
غريب أمر هذا المجلس النيابي الذي “كان” من المفترض ان يمثل العراق ليس بفئاته وأطيافه فحسب، انما بحنكة وحكمة أبنائه ايضا، غير ان جميع المؤشرات تميل نحو انحسار ذهنية اعضائه في تفكير لابصيرة له او مانسميه بالتفكير الاعمى، الذي يتحكم في سياقات عمل مجلسنا الموقر.. تفكير فئوي ضيق لايتجاوز الغرف المغلقة لأصحاب المصالح الحقيقية من تجار السياسة الذين يحركون بأناملهم الخفية دفة القرار في مجلس النواب الذي يؤسفني ان أسميه بـ”العراقي”، ليتحول هذا المجلس من ممثل للشعب الى منفذ لأجندات لاناقة للعراق فيها ولاجمل..
لاأدري كيف كان يفكر السيد رئيس مجلس النواب العراقي “والمسؤولية تقع على جميع الاعضاء ايضا” حين اعلن عن فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية.. وحين اعلن عن مجموعة من الشروط من شأنها “تسفيه” هذا المنصب السيادي المهم بالنسبة للعراق كدولة لها شأنها المرموق على الصعيد الدولي، فلو فكر قليلا “لاسامح الله” في أهمية هذا المنصب هو أو غيره من اعضاء مجلس النواب لربما توصلوا الى وضع شروط ذات أهمية تعطي لهذا المنصب أهميته وقيمته الحقيقية، لكن يبدو ان اعلان فتح الترشيح بهذه الشروط الهزيلة ليصل عدد المرشحين الى هذا الكم اللامعقول مما قد يعطي فكرة أوسع عن مفهوم التفكك الذي يعانيه العراق كدولة وكسياسيين يتحكمون بقدراته ومصيره، يقودنا الى التفكير في الاسباب الحقيقية وراء ذلك كله، بحيث يمكن حصر الموضوع كله في زاويتين لاثالث لهما..
الزاوية الاولى ان الموضوع طرح بشكل عشوائي بسبب الصراعات التي يعانيها المجلس من اجل الحصول على مكاسب ومغانم شخصية على حساب مصالح الشعب العراقي بحيث ولد هذا القرار ميتا من أجل احيائه فيما بعد ببعض المساومات الرخيصة التي من شأنها ترسيخ نظام المحاصصة الطائفية التي أودت بالبلاد نحو الخراب..
الزاوية الثانية تشير الى تدخل اصابع تعودنا ان نسميها بـ”الخفية” لدول خارجية واقليمية، رغم ان اصحابها أوضح من قرص الشمس في وضح النهار، ولايسعنا الا ان نسميها بـ”الخفية” كونها قد تضر بمصالح جيراننا “العرب” أو اصدقاءنا “الغرب”..، فهذه الدول من حقها ان تطالب بما صرفته من ميزانيات شعوبها على وسائل الدعاية الانتخابية الضخمة لسياسيين تعهدوا بالاخلاص لها تحت قبة مجلس النواب العراقي من خلال تنفيذ اجنداتها الخاصة.. وبطبيعة الحال الاجندات الخارجية لاتريد رموزا قوية من شأنها اعادة الهيبة للدولة العراقية فلابد اذا ان تقوم بـ”تسفيه” منصب رئيس الجمهورية والتوجه نحو اختيار شخص لاشخصية تحت أغطية الديمقراطية المتهرئة وستار الدستور المنتهك، وارباك العملية السياسية في البلاد أكثر مما هي مربكة..
كان الاولى بمجلس النواب العراقي ان يضع من بين شروطه للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية أحد شرطين، اما الحصول على تأييد من قبل بضعة من النواب المنتخبين على ان لايتجاوز العدد العسرة “من العسر”، أي بمعنى أدق الأخذ بعين الاعتبار الكتل الصغيرة التي يتراوح عدد اعضائها بين 5-10 أعضاء ليتاح لهم تقديم مرشح عنهم.. أو يمكن اللجوء الى خيار آخر وهو الحصول على تفويض من الشعب عبر توكيلات رسمية من قبل المواطن مباشرة الى المرشح مصدقة من أي كاتب عدل في البلاد وأن لايقل عدد التوكيلات عن معدل عدد الاصوات التي كان على المرشح الحصول عليها لنيل العضوية في مجلس النواب وفي مطلق الاحوال لايقل عدد التوكيلات عن عشرون الف توكيل من المواطنين العراقيين لأضفاء نوع من الشرعية على هذا الترشيح، وفي كلا الشرطين سيتحقق تفويض جزئي من الشعب للمرشح يمكنه من التنافس على هذا المنصب السيادي المهم..
وأخيرا لابد لنا ان نذكر بالقول المأثور “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه” وكفاكم ياساسة العراق من جر البلاد نحو الهاوية.. وأوفوا بعهدكم ولاتنكثوا أيمانكم اذ اقسمتم تحت قبة البرلمان.. فالعراق يحتضر بسببكم، وأرجعوا الى طريق العقل والحكمة رفقا بهذا الشعب الكريم الذي ينتظر منكم الكلمة الطيبة فحسب، فهي حسنة..